ربما تكون «بقعة الضوء» الوحيدة في حوادث «التعنيف» و«التحرش» و«الاغتصاب»، في المدارس الرسمية والخاصة، هي الزيادة في الإفصاح عنها، وخروجها أكثر فأكثر إلى العلن، وابتعادها شيئاً فشيئاً عن كونها «تابوهات»، وإن كان المرتكبون – أياً كانوا – لا يزالون يستشعرون بالاطمئنان نتيجة الهوّة بين المواقف الرسمية وحقيقة ما يُتخذ من إجراءات. في لبنان، تنكشف بعض الفضائح، وما خفي يكون أعظم، ولا مسؤول متوافرٌ لإعطاء الجواب اليقين، والقضاء الذي يفترض أن يتحرك تلقائياً، غالباً ما يتمنّى إعفاءه من مهام «تجلب الإحراج». يضجّ البلد بالقليل من الحوادث التي تتكرر يومياً في مدارس كثيرة. يحدث ذلك عندما يكون هناك من يجرؤ على التبليغ وتقديم شكوى إلى وزارة التربية، ومنها مثلاً حادثة مدرسة إيمانويل سكول في كفرشيما التي تعكس غياب الرقابة والمحاسبة من مصلحة التعليم الخاص للمدارس الخاصة. فالقصة تعود إلى فترة من الزمن، عندما قام حارس المدرسة المولج بحماية التلامذة بالتحرش بالطالبات، ما أحدث موجة اعتراضات أدّت إلى «لفلفة» الموضوع بطرد الحارس ثم إعادته إلى عمله، ولم تبلّغ بذلك وزارة التربية ولا حتى القضاء. إلا أن حوادث التحرش امتدت إلى الأساتذة وبينهم أستاذ فلسفة تمّ طرده قبل شهرين بعدما ثبتت عليه، بالتسجيلات الصوتية، تهمة التحرش اللفظي، فيما يؤكد بعض الأهالي أن الأستاذ كان يغري الطالبات بتغيير العلامات إذا تجاوبن معه، والأمر كان يتعدى التحرش اللفظي إلى الملامسة المباشرة.
بعدها تبلّغ المدير شكوى من أحد الآباء بأن ابنته تعرّضت للتحرش على يد أستاذ الرياضة الذي عرض عليها أن تطلب من والدتها عدم الحضور لاصطحابها، على أن يوصلها بدراجته النارية. والأكثر غرابة أن يعترف مدير المدرسة، بالصوت، أنه خصّص غرفة خاصة تحت الأرض للطلاب المدخّنين!
وإذا كان هذا يحصل في مدرسة تُعدّ ذات مستوى مقبول نسبياً، فماذا يحصل في دكاكين المدارس الخاصة التي شرّعت خلافاً للأصول ترفيع طلاب راسبين ومخالفات لا تُعد ولا تُحصى، ومنها ما يقترحه عماد الأشقر بصفته رئيس مصلحة التعليم الخاص ويعود ويوافق عليه بصفته مديراً عاماً للتربية بالإنابة؟
الموضوع ليس مقتصراً على التعليم الخاص. فحال المدارس الرسمية ليس أفضل، ولا سيما بعد كفّ أيدي المديرين الناجحين بأوامر سياسية. ورغم نفي مصادر إدارية في الوزارة حصول حادثة اغتصاب في مدرسة جابر الأحمد الصباح الرسمية في بيروت، تؤكد مصادر الأهالي أن حوادث كهذه تكررت أكثر من مرة. فقبل سنتين اغتصب أحد التلامذة تلميذاً آخر خارج حرم المدرسة، ووُضع المغتصب في السجن بعدما ثبت أنه كرّر هذا الفعل مع أكثر من شخص في الحي قبل أن يتبين أخيراً أنه على علاقة بعصابة «التيكتوكرز». وتمّت «لفلفة» الملف بذريعة أن الحادثة وقعت خارج حرم المدرسة، علماً أن التلميذ المُعتدى عليه بقي في المدرسة، وتؤكد المصادر أنه هو نفسه من اغتصب تلميذاً آخر قبل نحو أسبوع، وجرت «طمطمة» الموضوع من المسؤولين التربويين والإداريين في المدرسة. إلا أن التلميذ المُعتدى عليه، أقرّ لمعلمته بذلك عبر تسجيل صوتي، وجرى نقل المعتدي من القسم الابتدائي إلى قسم الروضات بحجة أنه مشاغب أو مريض، ولم يُفصل إلا بعدما أثير الموضوع على مواقع التواصل الاجتماعي.
وما كان يجري في مدرسة حكر الحوشب الرسمية في عكار، بحسب شكاوى الأهل، وقبل كفّ يد المدير، أخيراً، لا يقل فظاعة. ومع أن مصادر إدارية في الوزارة أشارت إلى أن المنطقة التربوية في عكار حقّقت مطوّلاً في الحادثة ولم يثبت لها حتى الآن ما جاء في الشكاوى وأن إقالة المدير كانت لعدم كفاءته فحسب، فإن الأهالي يؤكدون أن المدير خصّص غرفة في المدرسة لأغراض مشينة، وأجبر المعلمات على ارتداء ملابس غير لائقة، تحت طائلة سحب ساعات التدريس منهن، كما هدّد الناظر بالسلاح داخل المدرسة، وقام بتسجيل أسماء أساتذة وهميين لفترة تعليم السوريين بعد الظهر لقبض المبالغ المستحقّة عنهم.
وقد حضر التفتيش التربوي أكثر من مرة للتحقيق في الأمر بعد تقديم المحامي (خ. ع) شكوى ضد مدير المدرسة المحسوب على أحد نواب المنطقة، لتعيينه موظفين وهميين وقيامه بأعمال مخلّة بالآداب وسرقة أموال عمومية، علماً أن الشكوى لا تزال قيد التحقيق في المنطقة التربوية، وتمّ الاستماع للعديد من إفادات المعلمات والحجّاب عن حقيقة هذه التجاوزات. وهناك شكوى في مكتب وزير التربية بالموضوع والمضمون نفسه مسجّلة تحت الرقم 11/1002 بتاريخ 15/2/2024.
القضية لا تتوقف عند التحرش والاغتصاب، إذ تنتشر في المدارس قصص التعنيف أيضاً. فمديرية التعليم الابتدائي في وزارة التربية تحقّق منذ نحو شهر في الشكاوى المرفوعة إليها بحق مديرة مدرسة الشويفات – العمروسية الرسمية المختلطة، ج. ن.، ولم تصدر تقريرها حتى الآن. وكان معلمون وموظفون وأهال وجّهوا إلى ناجي اتهامات بتحقير التلامذة وشتمهم وصولاً إلى الضرب بالأيدي. وثمة من أبلغ الوزارة بأن المديرة أجبرت تلميذات الصف التاسع الأساسي على تنظيف الحمامات. وتتحدث مصادر الأهالي أيضاً عن أن دكان المدرسة يبيع أولادهم منتجات فاسدة ومنتهية الصلاحية. فيما شكت إحدى المعلمات من أنها تعرّضت للضرب ثلاث مرات، كما تروي إحدى العاملات في المدرسة بأن المديرة استقدمتها وزوجها للقيام ببعض الأعمال في المدرسة من دون أن تدفع لهما قرشاً واحداً، رغم أنها سجّلتهما كمستخدمين في اللوائح التي رفعتها إلى وزارة التربية. ومن المزاعم أن المديرة تقاضت من عاملة 4 ملايين ليرة من مستحقاتها بحجة أنها أمّنت لها «الوظيفة». وقد تواصلت «الأخبار» مع المديرة التي رفضت التصريح، وأحالتنا إلى وزارة التربية لاستيضاح الأمر، مكتفية بالقول إن «مواقع التواصل الاجتماعي مساحة مفتوحة وغير منضبطة، وبإمكان أي أحد أن يضع منشوراً كيفما اتفق».
وتقدّمت «الأخبار» أمس من وزير التربية عباس الحلبي، عبر مستشاره الإعلامي، للحصول على إذن للاطّلاع على ما قامت به الوزارة في هذا الصدد، إلا أنها لم تلقَ جواباً، علماً أن المكتب الإعلامي أصدر بياناً أشار فيه إلى أن الوزير فور تبلّغه بحادثة كفرشيما أوعز بالتحرك الفوري من جانب الوحدات الإدارية والتقنية المعنية، وتمّ إبلاغ وزارة العدل كما هو معمول به بين الوزارتين. وبالتوازي مع تحرك القضاء، قامت الوزارة، بحسب البيان، بتحقيق إداري أرسلت نتائجه إلى القضاء المختص (قاضي الأحداث في وزارة العدل وفق المستشار الإعلامي)، كما تمّ تقديم الدعم النفسي الاجتماعي للتلامذة، على أن تُستكمل المتابعة في الأسابيع المقبلة. وكلّف الحلبي أمس فريقاً إدارياً وتقنياً بالتوجه إلى المدرسة المعنية للمتابعة.
ولكن، كان لافتاً تحرك الحلبي بسرعة بقضية المدرسة الخاصة من دون أن تنسحب الوتيرة نفسها في ما يتعلق بما شهدته المدرسة الرسمية، فيما يُفترض اتخاذ إجراءات سريعة بحق المديرين، ومحاسبة الإداريين في الوزارة الذين يغطّون المخالفات ولا يتحركون إلا بعد أن يثيرها الناشطون والمتابعون لقضايا التربية.