“لا داعيَ للهلع”، عبارة يذكرها الجميع جيّداً خلال فترة تفشّي فيروس “كورونا” والأزمة الاقتصادية التي رافقته وطالت معظم القطاعات الحيوية في لبنان، وأرخت بظلالها بشكل خاصّ على قطاع الدواء، بعد فقدان الأدوية من الصيدليات لعدم توفّر الدولارات لدى المصرف المركزيّ. حينها رافق هذه الوقائع رفع الحكومة في تشرين الثاني 2021 الدعم كليّاً وجزئيّاً عن معظمها، ليقتصر الدعم على الأدوية المستعصية وبعض الأدوية المزمنة.
قصص كثيرة ما تزال عالقة في أذهاننا عن عناء البحث عن عبوات حليب الأطفال، ولجوء العديد من الأمهات إلى مواقع التواصل في محاولة للعثور على ضالّتهنّ سواء من الحليب أو الأدوية، وذلك بعد انقطاع معظمها من الصيدليات. نذكر أيضاً اضطرار المواطنين إلى زيارة أكثر من صيدلية بحثاً عن صنف معيّن حتّى تحوّل البحث عن الدواء إلى عادة يوميّة رافقت اللبنانيّ في تلك الفترة.
ولا ننسى أيضاً مشاهد حقائب القادمين إلى لبنان المحمّلة بالأدوية “المقطوعة” ولا سيّما أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية.
كغيره من القطاعات، يحاول قطاع الأدوية بما تيسّر من إمكانيّات الاستعداد لكاقّة الاحتمالات فيما لو توسّعت دائرة الاشتباكات على الحدود الجنوبيّة. فهذا القطاع مع حرب أو من دونها يعاني ما يعانيه من شحّ، وارتفاع في الأسعار، وتهريب وتزوير، وكلّ ذلك على حساب صحّة المواطنين.
كم يبلغ مخزون الأدوية في الصيدليّات؟ وهل بدأ التهافت على شرائها؟
في جولة لـ”النهار” على عدد من الصيدليات في مناطق عدّة اختلفت الأجواء نسبياً بين صيدليّة وأخرى. وتحدّث بعض الصيادلة عن إقبال محدود على شراء الدواء، فيما تحدّث البعض الآخر عن تهافت على التخزين وأسئلة المواطنين المستمرّة “شو في داعي للهلع؟”.
ينقسم اللبنانيّون بين مَن يحاول تخزين بعض الأدوية الضروريّة، والتي قد تحتاجها العائلة بصورة متكرّرة، كالمسكّنات وأدوية الالتهابات وغيرها، ويين المصابين بالأمراض المزمنة والمستعصية الذين يحاولون تفادي السيناريو السيّئ وهو انقطاع الدواء بشكل تامّ في حال نشوب الحرب، وبين من يعتبر أنّ التهويل الحاصل لا يستدعي التهافت على شراء الدواء أصلاً. علماً أنّ القسم الأكبر من المرضى في لبنان يمتنع عن تخزين الأدوية بسبب عدم القدرة على شرائها.
تستذكر ن.ك. في حديثها لـ”النهار” الأيام التي أمضتها من صيدليّة إلى أخرى وهي تبحث عن أدوية لها ولوالدتها وشقيقتها، وتروي كيف كانت تنتظر سفر أحد معارفها إلى تركيا لتوكل إليه مهمّة توفير الأدوية التي تحتاجها وعائلتها.
وتقول لـ”النهار”: “عند تعذّر تأمين الدواء من الخارج، كنت دائماً أخشى أن يكون الدواء المتوفّر هنا بلا فعاليّة. فمعظم الشركات التي كانت تأخذ على عاتقها تأمين البدائل كانت شركات غير مرخّص لها من قبل وزارة الصحّة. وكانت بدائل الأدوية في ذلك الحين بمعظمها من إيران وسوريا”.
وتضيف: “في إحدى المرّات اضطرّرت إلى شراء دواء بديل، إلّا أنّه تسبّب بعوارض جانبيّة، ذهب ثمنه هباء، وبعد رحلة بحث منهكة توصّلت إلى “صيدليّّ يمكنه استيراده من كندا، ولكنّ سعره كان خياليّاً”.
مناسبة هذا الحديث لم تكن لمجرّد العودة إلى ما عانته ن.ك. في السنوات الماضية، لكنّ شبح انقطاع الدواء الذي يطاردها اليوم، كغيرها من اللبنانيين دفع بها إلى تخزين علب الدواء بعد أن ازداد الحديث في الأيام الأخيرة عن إمكانيّة تحوّل المواجهات على الجبهة الجنوبيّة بين إسرائيل و”#حزب الله” إلى حرب واسعة.
تتخوّف ن.ك. من عدم قدرتها على تأمين الأدوية لها ولعائلتها في حال اندلعت الحرب، وتقول: “كف “كورونا” بعده معلّم والناس بعد ما وقفت على إجريها من الأزمة، كيف إذا صار حرب”.
وعن الدواء الإيرانيّ الذي باتت شريحة كبيرة من اللبنانيين تعتمد عليه، أفاد مصدر في وزارة الصحّة لـ “النهار” بأنّه يجري البحث في آليّة للتعاطي مع هذا الدواء سيّما بعد عدد من شكاوى المواطنين حول عدم فعاليّته، ما خلق نوعاً من الشكّ لدى الصيادلة والأطبّاء حول كيفيّة التعامل معه.
إحدى الأمهات تروي لـ”النهار” عن حالة الهلع التي تعيشها خشية تطوّر الأوضاع بصورة مفاجئة. تحاول تخزين أدوية لها ولعائلتها كالـ”بنادول” والـ”موتيليوم” وغيرها، وتقول: “ما منعرف شو رح يصير، اللي عنده ولاد ما في ما يفكّر ببكرا”.
بدوره، شابّ يعاني من مرض مزمن، يقول لـ”النهار”: “في بلد المفاجآت والمستقبل المجهول لا يمكن إلّا أن نفكرّ في تخزين أدويتنا. علبة الدواء التي أحتاجها تكفي لشهر واحد، لذا قمت بشراء علب إضافيّة تحسّباً لاندلاع الحرب”.
يضيف: “اللبنانيّ متروك لمصيره، ما من أحد يمكن الاتّكال عليه، الجميع يُطمئن ولكنّ عند وقوع المصيبة حدّث ولا حرج”.
تؤكّد “صيدلانيّة” تعمل في إحدى الصيدليّات في منطقة كورنيش المزرعة أنّ الطلب على الأدوية ارتفع في الفترة الأخيرة بصورة كبيرة، حيث ازداد الإقبال على شراء أدوية القلب والضغط والسكّري والأعصاب. ووصل الطلب إلى 5 و6 علب لكلّ شخص.
وتلفت إلى أنّ ما يجب الانتباه إليه أنّنا لا نستطيع أن نلبّي احتياجات المواطنين بهذه الصورة، فقد يُحرم البعض من الأدوية بسبب نفاد المخزون من المستودعات.
وعن الزيادة في الطلب على الأدوية، يقول أحد الصيادلة: “ما زلنا نعاني من أزمة في قطاع الدواء وزيادة الطلب أحدثت نوعاً من الإرباك لدينا ولا يمكن الاستجابة بشكل دائم لهذا الطلب، سيّما مع التحذيرات الأخيرة حول إمكانيّة تدهور الأوضاع الأمنيّة”.
المشهد في إحدى الصيدليات في منطقة الضاحية الجنوبيّة لبيروت اختلف تماماً، حيث أكّدت “صيدلانيّة” لـ”النهار”: “لم نلمس في الفترة الأخيرة تهافتاً كبيراً على شراء الأدوية. نعم بعضهم، وخصوصاً أصحاب الأمراض المزمنة، يأخذون من الدواء حاجاتهم لشهرين أو ثلاثة ولكنّ هذا الأمر ليس جديداً وغير مرتبط بالحديث مؤّخراً عن اندلاع الحرب”.
وتضيف: “لا يمكن مقارنة الطلب على الدواء مثلاً بما كانت عليه في فترة تفشّي فيروس “كورونا”، ولا أعتقد أنّ قدرة معظم اللبنانيين الشرائيّة تسمح بتخزين الأدوية أصلاً”.
تستطرد: “أحياناً، نلاحظ بعد كلّ عمليّة اغتيال مثلاً أو استهداف أو قصف أنّ وتيرة الإقبال على شراء الدواء ترتفع كالمسكّنات أو أدوية الغثيان أو أدوية الالتهاب وغيرها، ولكنّ لا يمكن القول أنّ المواطنين يتهافتون على شراء أو تخزين الأدوية، أقلّه في المكان الذي أعمل فيه، وما أسمعه من الزملاء في المهنة”.
بحسب نقيب الصيادلة جو سلوم، فإنّ أدوية الأمراض المزمنة متوفّرة في الصيدليّات ولا مشكلة بخصوصها وهناك مخزون في الشركات من 5 إلى 6 أشهر. والأهمّ أنّ واقع المواطنين الاقتصاديّ لا يسمح بشراء كميّات كبيرة منها.
وأكّد لـ”النهار”: “إذا لوحظ أيّ تهافت على تخزين الأدوية، سنقوم فوراً بطلب ترشيد إعطاء الأدوية كي نضمن تأمين الدواء لأكبر عدد من المرضى من جهة ومنعاً لاحتكارها وتخزينها من جهة أخرى. ولكن حتّى الآن أجزم بألّا تهافت على شراء الدواء”.
أمّا عن أدوية الأمراض المستعصية والسرطانية، يقول سلّوم: “هذه أدوية مدعومة وغير موجودة في الصيدليّات وهي أصلاً أدوية مقطوعة وهذه المشكلة قد تتفاقم مع الوقت”.
يُطمئن سلّوم أنّ هناك مصانع محليّة لتصنيع الأدوية ولديها احتياطيّ من المواد الأوليّة، ولا أعتقد أن ّحصاراً جوياً سيفرض على لبنان لفترة طويلة وبالتالي فإنّ المخزون كافٍ”.
ويُذّكر نقيب الصيادلة بأنّ طلب ترشيد إعطاء الأدوية تزامن مع اندلاع المواجهات منذ أشهر. ولم نبلّغ عن نقص في الأدوية. قطاع دواء متماسك وعلى أتمّ الجهوزيّة لأيّ طارئ ولكافّة الاحتمالات.
ديما عبد الكريم- النهار