من وجهة بيروت البحرية، وفي تمام الساعة التاسعة وخمس دقائق بتوقيت بيروت، تجدّد لقاء الجمهور اللبناني والعربي بالفنّان كاظم الساهر. ولفتت حصة وازنة للجمهور العراقي الذي يتتبع خطى حفلات قيصره. ودائماً ما يحلو اللقاء مع كاظم لأنّه يجلب معه الطرب والإحساس والحبّ والمرأة، وحتى الهواء اللطيف في عزّ تموز.
مشهدية الحياة عزّزت مرّة جديدة من قلب بيروت صورتين متناقضتين تهيمنان على لبنان والمنطقة، فهي رسالة متجدّدة من آلاف اللبنانيين، وحضور عربيّ خجول لتأكيد رغبتهم في الحياة ورفضهم منطق الحرب.
لم يخصّ الساهر جمهوره في بيروت بكلمة، بل ترك هذه المهمّة لأغنيات خاطبت مدينة حاضنة لعيد العشاق في كلّ الفصول، وفي أحلك الظروف؛ لذلك استهلّ أمسيته برائعة نزار قباني “عيد العشاق”: “يا مساء الورد يا عصفورتي… أيتها الأنثى التي لا تتكرّر”.
أبحر الجمهور مع الساهر إلى زمنه، زمن الحبّ والحلم، لمدّة ساعتين كاملتين، فقدّم فيهما مختارات من أرشيف فنّي خالد (هل عندك شكّ، أنا وليلى، عبرت الشّط على مودك، زيديني عشقاً، قولي أحبّك) طعّمه بجديده من ألبومه الأخير “مع الحب” المؤلّف من 13 قصيدة، 10 منها وزّعها المؤلّف الموسيقي ميشال فاضل، الذي شاركه على المسرح بأنامله على آلة البيانو بأداء “رقصة عمر”، و”لا تسألي”، وأغنيات كثيرة.
يتحلّى الساهر بخفّة دم راقية، وقد تجلّت هذه الصفة بعدما شكا لجمهوره معاناته من تدخين أحد الحاضرين قائلاً بابتسامة خجولة: “هذا السيجار ذبحني، وقد نسيت أن أستخدم البخاخ، لكن هذا الجو حلو، الله يحرسكم”.
قدّم الساهر خلال الحفل إيقاعاً موسيقياً يمثّل هوية “القيصر”، فكان من البديهيّ حضور النفس العراقي، الجذور، عبر “لقعدلك عالدرب قعود”. يبتسم للتفاعل مع أغنية ردّدها على مسارح العالم، لكن في كلّ مرّة تكتنزه مشاعر “الأداء للمرة الأولى”.
معنى الوفاء ملازم للقيصر أينما وُجد، لذلك لن يغيب عن باله صديق دربه الشاعر الراحل كريم العراقي. وعندما لبّى طلب الجمهور لأداء رائعة الشاعر الراحل “كثر الحديث”، توقّف لبرهة بعدما أدّى مقطعاً جاء فيه: “جُلَّ الذي أخشاه أن تتأثري، فتماسكي وتهيّئي وتحضّري”، توجّه إلى الجمهور بالقول: “دعوني أحكي لكم عن هذا المقطع “فتماسكي وتهيّئي وتحضّري”. تحضّري تعني حضّري نفسك. رحم الله كريم العراقي الذي عبّر عن تخوّفه من تأويل هذه الكلمة عند النساء، واعتبارهن أن معنى “تحضّري” مرادف للحضارة. لقد كان حريصاً أن أوصل الرسالة حينها، ولم تسمح الفرصة. اليوم أوصلها لكم وأوضح بأن كلمة تحضّري تعني تهيّئي”.
الفنان الحقيقي تهمّه التفاصيل، والساهر هو ملك هذه التفاصيل: فرقة موسيقية منسجمة مع إحساس وأداء مطرب حاضر بصوته ولغة جسده اللتين توجِدان دائماً جسراً موسيقيّاً يعبره كلّ متذوّق للفن العربي الأصيل. جلس الجمهور طوال الأمسية مصفّقاً ومستمتعاً بهذه التجربة الطربية. لكن من يستطيع أن يؤدّي ضابط إيقاع لنظام الجلوس أمام مشاعر الجنس اللطيف اللواتي خاطبهن الساهر بلغة نزار قباني؟!