كشف تحقيق قضائي يقوده رئيس محكمة الجنايات في بيروت القاضي سمير عقيقي، عن مشاركة كلٍّ من وزير الاقتصاد أمين سلام وشقيقه كريم ومستشاره فادي تميم في عمليات استغلال سلطة لابتزاز شركات تأمين متعثرة مالياً سعت إلى الحفاظ على تراخيصها بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020.
فبعد توقيف النائب العام المالي، القاضي علي إبراهيم، تميم بداية العام الجاري واكتفائه بسحب جواز سفر كريم سلام ثم إعادته إليه، أعاد عقيقي استكمال الملف، وأصدر قراراً في 25/6/2024 قضى بالحكم على تميم بالسجن ثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة، ثم تخفيفها إلى سنة بعد إعادته كامل المبلغ المالي الذي قبضه كرشوة. وأعاد الملف إلى النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم «للنظر في الإجراءات المناسبة» بحق كل من المدير العام لشركة «المشرق للتأمين» جورج ماطوسيان، ورئيس بلدية بيروت عبد الله درويش، الذي يشغل منصب مدير فرع في الشركة، وكريم سلام، ما وضع الكرة مجدداً لدى إبراهيم الذي يفترض أن يكون على قاب قوسين من الادّعاء على شقيق الوزير كما تقول المصادر.
ووفقاً للتحقيق الذي أجراه عقيقي واطلعت «الأخبار» عليه، عمل شقيق الوزير ومستشاره معاً على «ابتزاز شركات التأمين الراغبة في تجديد تراخيصها عبر قبض الأموال منها لقاء تجديد تراخيصها أو منحها مدة سماح لتسوية وضعها». والرواية تعود إلى غداة انفجار المرفأ عندما بدأت شركات التأمين تتهرب من دفع التعويضات المتوجبة عليها للمتضررين عبر الدفع باللولار أو بشيكات مصرفية غير قابلة للسحب. واقترح النقيب السابق لخبراء المحاسبة المجازين إيلي عبود (أعيد انتخابه بعد فوز لائحته المدعومة من القوات اللبنانية في الانتخابات الأخيرة للنقابة) يومها، خلال اجتماع مع وزير الاقتصاد وشقيقه، إجراء دراسات مالية لعدد من الشركات الكبيرة لتقييم وضعها المالي. ومن بين هذه الشركات، برز ملف شركة «المشرق» للتأمين التي كانت في وضع مخالف للقوانين والشروط، وشكّلت بالتالي «صيداً ثميناً» لشقيق الوزير ومستشاره. وتحت التهديد بسحب ترخيص الشركة، طلب تميم 250 ألف دولار بدل «أتعاب» لتسوية وضع الشركة، وعندما دفع ماطوسيان 100 ألف دولار لتميم، أصرّ الأخير على تقاضي المبلغ كاملاً، وعندما رفضت «المشرق» الدفع، سحبت وزارة الاقتصاد ترخيصها، ما دفع ماطوسيان إلى التقدّم بإخبار إلى النيابة العامة المالية نهاية العام الماضي ضد كريم سلام وفادي تميم بتهمة الابتزاز، فاكتفى القاضي إبراهيم بإدانة تميم وسجنه من دون ملاحقة شقيق الوزير. إلا أن عقيقي توسع في التحقيق وأعاد استدعاء المتهم وشقيق الوزير والشهود، ومن بينهم رئيس بلدية بيروت الذي يشغل منصب مدير فرعي في «المشرق» رغم تأكيده أنه جمّد عمله في الشركة لدى تسلمه رئاسة البلدية. وبحسب المعلومات، فإن لدرويش دوراً أساسياً في هذه القضية، إذ تفيد المصادر أنه هو من بادر إلى طلب مساعدة تميم لحلّ الإشكال بين الوزارة والشركة، والتقى تميم لهذه الغاية في مبنى بلدية بيروت، فطلب الأخير 400 ألف دولار لحل المشكلة. وقال درويش في إفادته أمام القاضي عقيقي إنه أنهى اللقاء بعدما شعر بالابتزاز، ليستكمل بعدها ماطوسيان الاتصالات مع تميم ويتفق وإياه على مبلغ 250 ألف دولار، ولكنه لم يدفع سوى 100 ألف دولار على أن يدفع بقية المبلغ لدى الحصول على براءة الذمة، وهو ما رفضه المستشار، ما أدى إلى سحب ترخيص الشركة. وقال درويش إنه زار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لطلب المساعدة وأبلغه بدفع 100 ألف دولار لمستشار وزير الاقتصاد، ما أثار غضب ميقاتي الذي طلب من درويش، وفقاً لأقوال الأخير، إبلاغ المستشار بضرورة تسوية الوضع. ولدى اتصال رئيس البلدية بإيلي عبود الذي يعمل أيضاً مدققاً في «المشرق» ليبلغ الأمر إلى تميم (يملكان معاً شركة تدقيق)، أجابه الأخير: «فليُحضر رئيس الحكومة براءة الذمة لكم». عندها، نصح ميقاتي درويش بالتقدم بإخبار لدى النيابة العامة المالية وهو ما حصل في تشرين الثاني 2023، وأكد درويش حينها أن عدداً من شركات التأمين دفعت رشى مالية.
وتم الاستماع يومها إلى درويش وكريم سلام وتميم وعبود وماطوسيان. يومها قال سلام إنه يساعد شقيقه (الوزير) على الأصعدة السياسية والاقتصادية، ويحضر الاجتماعات كافة في المجال الاقتصادي كونه متخصصاً فيها خلافاً لشقيقه. وأوضح أن تميم هو مستشار للأمور السياسية، وأن لجنة الرقابة على شركات التأمين تابعة مباشرة لوزير الاقتصاد، وأن الشركات ملزمة الحفاظ على عدد من الشروط التي يفرضها القانون تحت طائلة سحب ترخيصها في حال إخلالها بالشروط، وبعد إنذارها تكراراً. وأفاد أن «المشرق» تعاني عجزاً في تغطية بوالص التأمين لديها منذ بداية 2023، ما أدى إلى تعليق رخصتها، كونها لم تسلّم لجنة الرقابة ميزانيتها عن آخر 3 سنوات رغم إنذارها. ونفى سلام تقاضيه أي مبالغ مالية من الشركة، ولكنه لا يعلم ما إذا كان تميم قد فعل، مؤكداً أنه التقى بصاحب الشركة أكثر من مرة في الوزارة بترتيب من رئيس بلدية بيروت.
وقائع التحقيق: ابتزاز بحماية الوزارة
في جلسة التحقيق الأخيرة التي عُقدت في 13/6/2024، أورد القاضي سمير عقيقي كل الوقائع والأدلة منذ تسلم الإخبار، بما في ذلك تأكيد ماطوسيان أن وزارة الاقتصاد كانت تهدده بسحب رخصة «المشرق»، مشيراً إلى أن التهديد كان يصله عبر شقيق الوزير، وأن مدقق الحسابات إيلي عبود نصحه بالتجاوب مع عرض تميم لإنهاء الملف، وأفاد ماطوسيان أنه تلقى العروض من تميم بوصفه أحد مستشاري الوزير، وأن عبود ودرويش لعبا دور الوسيط. وأفاد بأن مستشار الوزير أعاد إليه مبلغ الـ100 ألف دولار بعد إيعاز النيابة العامة المالية إليه بذلك، مشيراً إلى أن الـ 250 ألف دولار التي طلبها لم تكن لقاء أتعاب بل كانت ابتزازاً، ولكنه وافق على دفعها كي لا تُسحب الرخصة منه. وخلال الاستجوابات، أورد القاضي أن عبود نفى أن يكون تميم قد طلب منه أي مستندات مالية خاصة بالشركة، ما فسر ضمناً بعدم رغبته القيام بأي تدقيق، من دون أن يبدي رأياً واضحاً في ما إذا كان تلقّيه مبلغاً مالياً هو عبارة عن رشوة أم لا.
في المحصلة، أكّد عقيقي أنه ثبت قانوناً أن تميم هو مستشار سياسي لوزير الاقتصاد (تبرز صوره في كل الاجتماعات التي يعقدها الوزير سلام) ويحضر إلى الوزارة مرتين إلى 3 مرات أسبوعياً بتأكيد من شقيق الوزير نفسه. وبالتالي يُعدّ موظفاً، وبذلك يكون مشمولاً بمفهوم الموظف المقصود في المادة 350 من قانون العقوبات. ونتيجة طلبه مبلغ 250 ألف دولار واعترافه بقبض 100 ألف دولار من أصحاب «المشرق» لتسوية وضع الشركة غير القانوني من دون تنظيم أي عقد، ومساومته حول مقدار المبلغ دون بيان ماهيته ووظيفته، ثمة ما يثبت أن غايته القيام بعمل منافٍ لوظيفته، فتكون شروط المادة 350 من قانون العقوبات متوافرة في القضية، ما يقتضي تجريمه بموجبها. كذلك أنزل القاضي به عقوبة وفقاً للفقرة الـ 9 من قانون مكافحة تبييض الأموال، لناحية كسبه أموالاً غير مشروعة ناتجة عن أعمال فساد بما فيها الرشوة. ووفقاً للقاضي عقيقي، فقد «تبيّن أن الراشي جورج ماطوسيان لم تجرِ ملاحقته في هذه الدعوى مع أن القانون لا يعفيه من الملاحقة، وإن أعفاه من العقاب رهن توافر الشروط بعد إجراء الملاحقة وفقاً للأصول»، إضافة إلى «شبهات جدية تدور حول دور شقيق وزير الاقتصاد كريم سلام، في هذه القضية وهي تستحق التوسع في التحقيق لتوضيح دوره وإجراء الملاحقة بحقه في حال توافر الأدلة». أما نقيب خبراء المحاسبة إيلي عبود، فتبين للقاضي «أنه أدلى بشهادته أمام المحكمة بشكل يثير الالتباس والضبابية حول الوقائع، ما يقتضي التحقق من توافر شروط كتم المعلومات وفقاً لما نصت عليه المادة 408 من قانون العقوبات». ورأت المحكمة ضرورة إحالة الأوراق مجدداً إلى النيابة العامة المختصة للاطلاع واتخاذ الإجراءات المناسبة بحق كل من جورج ماطوسيان وكريم سلام وإيلي عبود وفقاً لما تقدم. ولم يأتِ القاضي على ذكر رئيس البلدية الذي قام بوساطة بين شركة التأمين ومستشاري وزير الاقتصاد.
اليوم عاد الملف مجدداً إلى القاضي إبراهيم، إذ يُفترض به اتخاذ قرار بتثبيت الجرم على شقيق الوزير وملاحقته وعلى كل من ماطوسيان وعبود. وعلمت «الأخبار» أن وزير الاقتصاد يمارس ضغوطاً سياسية على عقيقي وعلى المسؤولين في النيابة العامة المالية لإغلاق الملف، والحؤول دون ملاحقة شقيقه. وقد زار مؤخراً رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي نصحه بتقديم إخبار ضد شركات التأمين بنفسه. كذلك زار ميقاتي معتذراً عن كلام نابٍ وجهه إليه سابقاً وعن تحريضه عائلات بيروتية ضده، وطلب لملمة الملف والتوصل إلى حلّ يرضي الجميع.
رلى إبراهيم – الاخبار