أنطوان فرح – الجمهورية
يدرك حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري أنّ واشنطن هي مفتاح الحل اذا أراد النجاح في مهمّة تجميد إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي الدولية (FATF). لذلك ركّز الرجل في محادثاته في واشنطن على إقناع الأميركيين قبل سواهم بجدوى تجنيب لبنان هذه الكأس في الخريف المقبل. فهل نجح في ذلك؟
لا تبدو المعلومات حول نتائج محادثات منصوري في الولايات المتحدة الاميركية حاسمة. وما سمعه الاميركيون والمسؤولون في صندوق النقد والبنك الدولي، لا يختلف كثيراً عمّا سمعوه قبل اشهر، من منصوري وسواه من شخصيات لبنانية حاولت أن تضع بصمتها في ملف «إنقاذ» لبنان من العودة الى اللائحة الرمادية التي سبق واختبر مخاطرها في التسعينيات، قبل ان يخرج منها في مساعٍ حثيثة تضمنت ورشة تشريعات أنجزتها في حينه الحكومة والمجلس النيابي.
من تابع تحرّكات منصوري في واشنطن، يعتبر انّ نقطة القوة لديه هي نفسها نقطة الضعف. بمعنى انّ الحاكم بالإنابة، وفي موازاة الشروحات التي قدّمها في شأن الوضع اللبناني، ركّز على انّ الوضع لم يتدهور عمّا كان عليه في العام 2023، حين قرّرت المجموعة منح لبنان مهلة لتنفيذ اجراءات محدّدة، وانّ البلد يحتاج الى مهلة اضافية لتنفيذ ما هو مطلوب. لكن هذا المنطق نفسه، يستخدمه الاميركيون والمسؤولون في المنظمات الدولية للقول لمنصوري انّ لبنان ينبغي ان يكون على اللائحة الرمادية، لأنّه لم ينجز اي تقدّم في الإجراءات التي طلبتها المجموعة المالية قبل اكثر من عام، بما يعني انّه بات من الضروري زيادة الضغط عليه للانصياع للانتظام المالي المتعارف عليه دولياً.
وبما انّ مصرف لبنان نفّذ من جهته معظم الخطوات التي سبق وتعهّد بها للمنظمات الدولية، وبما انّ القطاع المصرفي لا يزال يحافظ على قدرته على الامتثال والحوكمة، وهذا ما أكّدته (FATF) في مناقشاتها الأخيرة، فهذا يعني انّ الثغرة تكمن حصراً في إجراءات مطلوبة من قبل السلطتين التشريعية والتنفيذية. وهذا ما حاول منصوري ان يوضحه، مؤكّداً انّه يعمل على خط الضغط، ضمن الإمكانات المتاحة، على «الدولة» لحملها على القيام بواجباتها حيال هذا الملف، وانّه لم ينجح حتى الآن. لكن المفارقة، انّ مصدراً مواكباً للمواقف الاميركية، يقول انّ إدراج لبنان على اللائحة الرمادية سيكون بمثابة «مساعدة» غير متوقعة، يتمّ تقديمها لحاكم مصرف لبنان بالإنابة، من خلال منحه ورقة ضغط اضافية يمكن ان يستخدمها في وجه السلطة السياسية، لكي تتحرّك في الاتجاه المطلوب.
وبرأي البعض في واشنطن، انّ إدراج لبنان على اللائحة الرمادية، سيوصل رسالة واضحة الى السلطة السياسية، مفادها انّ الخطوة المقبلة ستتمثل بالانتقال الى اللائحة السوداء، حيث يصبح المشهد اللبناني أصعب وأشدّ تعقيداً. إذ سيؤدي ذلك، الى قطع العلاقات مع المصارف المراسلة، والى توقف كل انواع التحاويل عبر الشبكة المالية العالمية (SWIFT) وسيصبح متعذراً فتح اعتمادات مصرفية للاستيراد. وفي هذه الحالة، سيصبح متعذراً استيراد السلع، سوى من خلال البنك الدولي، وفق لوائح محدّدة تشمل الضروريات مثل القمح والطحين والارز، وبعض المواد الغذائية الاولية. وهذا يعني انّ اللبنانيين سيُحرمون من معظم السلع التي يتمّ استيرادها حالياً.
وفي هذا السياق، يشدّد مسؤولون في منظمات مالية دولية، على أن لا شيء يمنع إدراج لبنان على اللائحة السوداء مباشرة، من دون المرور بمرحلة اللائحة الرمادية. والامتناع عن خطوة من هذا النوع، يعكس حرص المجتمع الدولي على تأمين الحدّ الأدنى من الحماية للبنان، ومنحه الفرص لتصحيح المسار المالي.
ومن الواضح، انّ البعض في واشنطن ركّز الاسئلة حول مصدر الاموال التي تدخل الى البلد، والتي سمحت لمصرف لبنان بشراء اكثر من مليار دولار من السوق، مع الابقاء على سعر الصرف ثابتاً، وضمان التوازن في ميزان المدفوعات. وهذا الامر سمح بارتفاع كلفة المعيشة في بيروت، الى مستويات لا تشبه اية دولة اخرى تعاني ما يعانيه لبنان من انهيار مالي يُعتبر من الأخطر في تاريخ الأزمات المالية العالمية.
لم يعد موعد الخريف بعيداً، وقد يكون من الصعب تحاشي الوقوع في فخ اللائحة الرمادية، لكن ذلك، وإن حصل، لن يؤثر عملياً على الوضع المالي والاقتصادي، ولكنه سيكون بمثابة إنذار أخير قبل الانتقال الى مرحلة العزلة. وبالانتظار، سيكون الرهان على عودة الانتظام السياسي سريعاً لكي تصبح طريق التشريع سالكة، لاتخاذ الاجراءات المطلوبة. وإذا جرت رياح حرب غزة بما يشتهيه اللبنانيون، وتوقفت الحرب هناك لكي تتوقف الحرب في الجنوب، ستكون فرص النجاة من اللائحة السوداء أشدّ وضوحاً، في المرحلة المقبلة.