توزيع الكهرباء في لبنان: نزف مالي مستمر


خدمات توزيع الكهرباء في مؤسسة كهرباء لبنان تشمل كل ما يتعلق بإيصال الطاقة من الشبكة إلى عداد المشترك، بما فيه العدادات نفسها ومراقبتها وأخذ تأشيراتها، والفوترة والجباية والتحصيل وصيانة الأعمدة والكابلات وتطوير المحوّلات القديمة التي لم تعد قدرتها تتناسب مع الطلب بسبب التوسّع السكاني. وتلحظ هيكلية المؤسسة مديريتين للتوزيع، واحدة لبيروت وجبل لبنان والثانية لباقي المناطق، ويتولى مهام كل منهما مدير ومستخدمون من بينهم ملاحظون محلّفون؛

مشروع مقدمي خدمات توزيع الكهرباء ورد ضمن ورقة سياسة القطاع التي وافقت عليها الحكومة خلال العام 2010 لفترة انتقالية تتراوح بين 3 و4 سنوات، بغاية تأهيل الشبكات وتنفيذ العدادات الذكية والحد من الهدر والتعليق وتحسين الفوترة والجباية. وقد تم تقسيم لبنان إلى أربع مناطق واعترض على قرار تلزيم المشروع في حينه عضو من اثنين يتألف منهما مجلس الإدارة غير المكتمل والمنتهية مدته مع رئيسه منذ سنوات، وقدّرت تكلفة المشروع بـ 780 مليون دولار توزعت على مدة المشروع وكان لبعض المديرين وأعضاء مجلس إدارة المؤسسة اعتراضات عديدة عليه منها ارتفاع تكلفة الأشغال والخدمات أضعاف ما كانت عليه قبل.

مشروع مقدمي الخدمات أدخل شركات خاصة إلى قطاع توزيع الكهرباء في مؤسسة كهرباء، التي ينص قانون إنشائها على احتكارها، إنتاج ونقل وتوزيع الكهرباء، وذلك أواخر العام 2011، حيث وافق وزير الطاقة مباشرة وبنفسه على قرار مجلس إدارة المؤسسة المتعلق بعقد ثلاث صفقات تلزيم اشغال مقدمي خدمات التوزيع، بالرغم من اعتراض عضو من اثنين على التلزيم باعتباره يتضمن عدة مخالفات. وقد بوشر بتنفيذ المشروع خلال العام 2012، وتم تكليف أحد مستشاري الوزير لمتابعة سير تنفيذه، وكان يفترض أن يحقق المشروع أهدافه وينتهي في العام 2016.

بعد أكثر من سنة على إطلاق المشروع أبلغت المؤسسة وزير الطاقة بأن مداخيل المؤسسة لم تشهد قفزة نوعية عما كانت عليه في السابق، وأن مستوى الجباية ما زال قريباً مما كان عليه، وأن أعمال نزع التعدّيات ما زالت خجولة، وأن مجموع عدد المحاضر المنظمة بالتنسيق مع مقدمي الخدمات في مختلف المناطق بلغ ٣٧٨٩ محضراً؛ وبعد حوالي السنتين من وضع المشروع موضع التنفيذ، رأى وزير الطاقة في حينه ان شركات مقدمي الخدمات لم تقم بواجباتها التعاقدية كاملة تجاه مؤسسة كهرباء لبنان من ناحية تحسين الجباية وزيادة الواردات ونزع التعدّيات وتحسين خدمة الزبائن وتطبيق معايير جودة الخدمة والتأخير بمكننة نظام البرمجة والتأخّر بتجهيز وتأهيل صالة الزبائن وبدء وضع نظام العدادات الذكية قيد العمل وغيرها من الأمور المرتبطة بالأهداف الأساسية للمشروع؛ وطلب من المؤسسة إطلاق تلزيم الإشراف على المشروع وإنهاء تلزيم أشغال توريد وتركيب البنى التحتية لقراءة العدادات والتحكّم بها عن بُعد بالسرعة القصوى.

خلال العام 2013 تقدمت شركات مقدمي الخدمات ببرنامج إنقاذي، بعد أن تم تعيين لجنة داخلية من المؤسسة استقال أعضاؤها أكثر من مرة؛ وطلب وزير الطاقة من إدارتها الإسراع بإطلاق استدراج العروض لتلزيم الإشراف على المشروع.

خلال العام 2014 أصدر المدير الخارجي للمشروع تقريراً أعلن فيه أن المشروع فشل فشلاً ذريعاً وبات يشكّل نزفاً مالياً للمؤسسة يجب وقفه، وقدّم اقتراحاته في هذا المجال؛ وهو كان اعترض على العدادات الذكية المعروضة بسبب عدم تجريبها على الشبكة ومحاولة تمريرها من خلال تجريبها في المختبر وليس على الأرض. وقد نزل الغضب على هذا المدير وعومل بطريقة أدّت إلى خروجه من المؤسسة واستبداله بشركة استشارية بالتراضي تحت عنوان «أشغال خدمات»، غير الموجود في النظام المالي للمؤسسة، وإنما «ابتكر» لتبرير التراضي. وجرى وما زال يجري التمديد للشركات خلافاً للأصول.

صدرت عدة تقارير عن مديرية المراقبة العامة لدى مؤسسة كهرباء لبنان أبلغت بموجبها عن إخلال الشركات المتعاقد معها بموجباتها التعاقدية، وعن عجز المؤسسة عن تسديد فواتيرها ومستحقاتها وتدهور الاستثمار وتقهقر أوضاع قطاع التوزيع على كافة المستويات، وعن احتفاظ الشركات بالأموال المجباة وعدم تسديدها للمؤسسة بشكل يومي…؛ وبناءً عليه صدر عن المفتشية العامة الهندسية خلال العام 2016 كتاب انتهى إلى اقتراح إحالة كتاب المراقبة العامة ومرفقاته إلى النيابة العامة التمييزية لإيداعه القضاء المختص تمهيداً للتحقيق بمختلف النقاط المثارة فيه خاصة في ما يتعلق بالفوترة والجباية.

لتخليص مقدمي الخدمات من أهم موجباتهم التعاقدية المتمثلة بمؤشرات الأداء، والتي تشكّل أهم نقاط ضعفهم، عمدوا إلى إعفائهم من مبالغ التوقيفات، التي كانت متوجبة عليهم لصالح المؤسسة، وتم تقديرها من قبل مدير المشروع بـ 90 مليون دولار واقترح وقفها. وقد حصل الوزير على قرار من مجلس الوزراء بإعفاء مقدمي الخدمات من تحقيق مؤشرات الأداء المطلوبة منهم، وتحرير توقيفاتهم إضافة إلى الموافقة على التمديد للمشروع، دون مراعاة أسباب الفشل وتداعياته وأهمية الأضرار المالية التي تسبب بها المشروع للمؤسسة.

قبل دخول مقدمي الخدمات إلى صلب مهام التوزيع، الذي شكّل انتهاكا لأحد احتكارات المؤسسة المنصوص عليها في قانون إنشائها، كانت المؤسسة تستعين بمتعهدي أشغال غب الطلب لتأمين بعض حاجات التوزيع التي كانت تحتاج إليها، وكان ذلك يتم بتكلفة أقل بكثير من أسعار مقدمي الخدمات. وبرأي مدير توزيع سابق في المؤسسة كان من أشدّ المعترضين على المشروع، فإن المشروع لم يقدّم أي مساهمة أو نتائج إيجابية فعّالة على الصعيدين الفني والمالي، وإنما على العكس تسبّب بأضرار جسيمة وتقصير وتأخير في تنفيذ المهام الأشغال المطلوبة، ومنها الجباية التي تراجعت بدلاً من أن تتحسّن، وأنه تم حصر تنفيذ الأشغال بأربع شركات فيما كانت قبلهم موزعة على سبعة عشر متعهد في المناطق، حيث المنافسة كانت أفضل لخشيتهم من إقصائهم، وكان يتم ملء الفراغ الحاصل في منطقة ما بنتيجة تقصير أحد المتعهدين بالاستعانة بالأقرب وفق ما كانت تنص عليه الاتفاقيات معهم في ذلك الوقت، وبالنتيجة فإن تلبية طلبات تركيب العدادات ومعالجة الأعطال والـ«خنقات» على الشبكات كانت تتم بشكل أسرع وبكفاءة أفضل؛ والسبب الرئيسي في هذا التراجع وزيادة المشاكل يعود إلى عدم توفر الخيرة الكافية والمناسبة التي كانت متوفرة قيل.

حتى اليوم، ما زال المواطن اللبناني يدفع ثمن فشل المشروع وزيادة نسبة الهدر إلى أعلى بكثير مما كانت عليه خلال فترة تولّي أجهزة المؤسسة خدمات التوزيع، ومعه أعباء التعرفة الجديدة الفاحشة التي بُنيت على تحميل المشترك الملتزم أعباء الخسارة الناتجة عن الهدر الذي يتسبب به التعليق بوجود النازحين وغيرهم، وذلك في ظل أزمة اقتصادية خانقة، واستبداد أصحاب المولدات وفواتيرها العالية.

قبل انهيار 2019 كانت الفوترة والجباية قد تأخّرت حوالي السنتين وكانت قيمة المتأخرات تقدّر بحوالي 600 مليون دولار ضاعت قيمتها بسبب ارتفاع سعر الصرف. واليوم أيضاً هناك تأخّر في الفوترة والتحصيل حوالي السنة، وليس هناك معلومات حولها من المؤسسة، التي لم تدفع حتى اليوم أي قرش من ثمن النفط العراقي، وتطالب الدولة بتسديده بالدولار مع غيره من الالتزامات والمستحقات المتوجبة عليها.

نضع هذه الحقائق والمعلومات والوقائع بتصرف الحكومة واللجنة المختصة فيها وفي مجلس النواب، آملين أخذ العلم، وبناء القرار المناسب في ضوئها لوقف النزف المالي المستمر في ظل الانهيار، ويهدّد استقرار سعر الصرف.

Exit mobile version