يقول قادة الجيش الإسرائيلي إنهم “لا يريدون حرباً في لبنان، لكنهم مستعدين لأي سيناريو”. وقال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو خلال زيارة للحدود اللبنانية الشهر في حزيران إن “إسرائيل مستعدة لعملية مكثفة للغاية”. وفيما هدد وزير الدفاع يوآف غالانت بـ”إعادة لبنان إلى العصر الحجري” على حد تعبيره.
لكن خلف هذه المواقف يتكشف واقعاً آخر، حيث تقول صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية إن هناك مخاوف متزايدة داخل إسرائيل من أنها غير مستعدة لحرب على الجبهة الشمالية٬ حيث إن جنودها مرهقون للغاية٬ فيما نضبت موارد الجيش بعد أطول حرب تشهدها إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948.
ولم تتمكن 9 أشهر من الحرب الطاحنة ضد قطاع غزة و”الهجمات العقابية” ضد “حماس” من هزيمة الحركة٬ كما أن نتنياهو المحاصر سياسياً لم يحدد بعد استراتيجية خروج من الحرب في القطاع. أما في لبنان، ستواجه إسرائيل عدواً أكبر حجماً وأفضل تسليحاً وأكثر احترافية -كما يحذر الخبراء أميركيون وإسرائيليون- فضلاً عن التهديد بمستنقع عسكري أعمق.
تقاتل إسرائيل على جبهتين منذ الثامن من تشرين الاول، أي بعد يوم من هجوم حركة حماس على مستوطنات غلاف غزة٬ مما أسفر عن مقتل حوالي 1200 إسرائيلي معظمهم جنود٬ وأسر نحو 250 إسرائيلي آخر. وفي غضون ساعات، بدأ مقاتلون من حزب الله، في شن هجمات على شمال إسرائيل من لبنان٬ ليشتعل صراع حدودي متبادل ومتصاعد يوماً بعد يوم منذ ذلك الحين.
تقول إسرائيل إنها تنتقل إلى مرحلة قتالية “أقل كثافة” في غزة، وأنها استأنفت المفاوضات في القاهرة بشأن صفقة محتملة لتبادل الأسرى مع حماس. لكن حزب الله يصر على أنه لن يتوقف على الجبهة الشمالية، أو يفكر في الانسحاب من المناطق الحدودية حتى يتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في القطاع.
وتقول كل من إسرائيل وحزب الله إنهما يفضلان “الحل الدبلوماسي”، لكن لا يبدو أن أياً منهما مستعد لتقديم نوع التنازلات التي يتطلبها مثل هذا الحل٬ كما تقول صحيفة “واشنطن بوست”. والنتيجة توتر الجيش والحكومة الإسرائيلية٬ مع تزايد أعداد القتلى والدمار بفعل القصف المتبادل٬ فيما أصبحت البلدات الحدودية مهجورة، ويتزايد الضغط من النازحين الإسرائيليين على الحكومة للتحرك وفعل أي شيء.
ويعكف القادة العسكريون الإسرائيليون على وضع خطط للهجوم على لبنان منذ أشهر. الأسبوع الماضي٬ بعد مقتل إسرائيليين في هجوم صاروخي لحزب الله، قال عضو مجلس الوزراء الحرب السابق بيني غانتس٬ إنه وآخرين٬ طالبوا نتنياهو بالسماح بتوغل إسرائيلي في جنوب لبنان في آذار الماضي لردع حزب الله، لكن رئيس الوزراء “كان متردداً”٬ ورفض الالتزام بإعادة السكان الإسرائيليين إلى منازلهم في الشمال بحلول الأول من أيلول، وهو بداية العام الدراسي الجديد.
وقال غانتس: “لا تستطيع إسرائيل أن تتحمل استمرار الحرب في الشمال كما هي، وخسارة عام آخر. لقد حان الوقت لتدفيع حزب الله الثمن في الأهداف العسكرية والبنية التحتية اللبنانية”.
من جانبه٬ تقول جايل تالشير، أستاذة العلوم السياسية في الجامعة العبرية، إن “نتنياهو، الذي تفاخر ذات يوم بقدرته على منع الحروب، يعلم أن الجمهور الإسرائيلي غير مستعد لاستقبال آلاف الصواريخ على تل أبيب وغيرها”.
وأضافت لصحيفة “واشنطن بوست” أن “نتنياهو بدلاً من وضع استراتيجية واضحة، قام بعزل نفسه، وتجنب اتخاذ القرارات الصعبة من أجل كسب الوقت وإحاطة نفسه بموالين يفتقرون إلى الخبرة العسكرية”.
منذ حل مجلس الحرب بعد رحيل غانتس مؤخراً، نأى نتنياهو بنفسه أكثر عن قادة الجيش، كما يقول المحللون الإسرائيليون، بما في ذلك غالانت، الذي حاول الدفع منذ أشهر لأجل وقف إطلاق النار وعقد اتفاق تبادل للأسرى في غزة٬ للسماح للجيش بالتركيز على لبنان.
وقال غالانت يوم الأحد مع سقوط عشرات الصواريخ على إسرائيل، بما في ذلك قاعدة عسكرية استراتيجية في “جبل ميرون”، إن “هذه أيام حرجة فيما يتعلق بممارسة قوتنا ضد [حزب الله]، الذي لا يرد إلا بالقوة”٬ على حد تعبيره.
ولم يتوقع المستوطنون الإسرائيليون القلائل الذين بقوا في شمال إسرائيل بعد الثامن من تشرين الأول٬ أن يظلوا في طي النسيان من حكومتهم لفترة طويلة.
وقال عامير سيمشي، الذي خدم لمدة تسعة أشهر في في كيبوتس ساسا، وهي بلدة زراعية في الجليل الأعلى تقع على بعد ميل من الحدود اللبنانية: “إن العائلات الإسرائيلية متعبة”.
وكانت عائلة سيمشي من بين 100 ألف إسرائيلي قاموا بمغادرة شمال إسرائيل عندما بدأت صواريخ حزب الله والطائرات الانتحارية بدون طيار والصواريخ المضادة للدبابات تنهمر٬ مما حول هذه المنطقة الجبلية الرعوية إلى منطقة صراع دائم وحرائق.
وتقول مصادر لبنانية٬ إن الغارات الإسرائيلية قتلت ما لا يقل عن 94 مدنياً وأكثر من 300 من مقاتلي حزب الله في لبنان. وأسفرت هجمات حزب الله عن مقتل ما لا يقل عن 20 جنديا و11 مستوطناً في شمال إسرائيل.
ويقول الجندي “سيمتشي” إنه يحاول أن يجد بديلًا في الفريق عندما تحتاج إليه عائلته، لكن لا يوجد ما يكفي من المتطوعين. وقال متحدثاً في قاعة مدرسة الكيبوتس، التي دمرتها صواريخ حزب الله في كانون الأول: “لا أعرف ما إذا كان سيكون هناك اتفاق دبلوماسي أو حرب، لكن ما أعرفه هو أنه لا يمكن أن يستمر الأمر على هذا النحو”.
من جانبه٬ قال رئيس المجلس المحلي موشيه دافيدوفيتش إن مئات المنازل تضررت أو دمرت في شمال إسرائيل. وهذه مجرد لمحة صغيرة عن الدمار الذي من المرجح أن يلحقه حزب الله في حرب واسعة النطاق٬ حيث من المتوقع أن تؤدي الحرب إلى انقطاع التيار الكهربائي عن مناطق واسعة من البلدات والمستوطنات في الشمال، بعد إطلاق الحزب الصواريخ والقذائف الهائلة، والقتال البري ضد مقاتلي حزب الله المدربين والمجهزين جيداً الذين يقاتلون على تضاريس مألوفة لهم.
ويعتقد الإسرائيليون أن حزب الله لديه أكثر من ضعف عدد المقاتلين الموجودين لدى حماس، وأكثر من أربعة أضعاف في عدد الذخائر، بما في ذلك الصواريخ الموجهة والطائرات المسيرة.
ويتم الآن التعبير علناً عن المخاوف من عدم استعداد إسرائيل لهذه الحرب الواسعة. واعترف يائير جولان، حزب العمل الإسرائيلي والنائب السابق لرئيس أركان قوات الدفاع الإسرائيلية، لمحطة إذاعية إسرائيلية الشهر الماضي: “لقد تم استنزاف الجيش النظامي والاحتياطي حتى العظم”.
وقال يوئيل جوزانسكي، المسؤول السابق في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، وهو الباحث في معهد دراسات الأمن القومي بواشنطن: “إن إسرائيل معتادة على خوض حروب قصيرة. ولكن بعد تسعة أشهر، أصبح جيش الدفاع الإسرائيلي مرهقاً، ويحتاج إلى العناية بالمعدات، وقد استنفدت الذخائر، فيما تتأثر كل أسرة في إسرائيل بالحرب”.
وتقول الصحيفة الأميركية إن حتى الصراع المنخفض الحدة نسبياً على طول الحدود تسبب في خسائر فادحة في صفوف جنود الخطوط الأمامية. ويقول جندي احتياطي إسرائيلي يبلغ من العمر 25 عاماً تم نشره على الحدود، وتحدث بشرط عدم الكشف عن هويته: “إنه واقع تحت إطلاق النار منذ أربعة أشهر٬ وأصبح الإرهاق يتراكم عليه”.
وقال إنه عندما انتهت جولته، “كان من الصعب العودة إلى الروتين”. لقد طلب استراحة من وظيفته كمدرس حتى يتمكن من التكيف مع الحياة المدنية. والآن يستعد للاستدعاء مرة أخرى، ويتساءل عما إذا كان قادرًا على ذلك. ويقول إن أصدقائه يصارعون أنفسهم مع قرار العودة للقتال.
منذ بدء العملية في غزة، قُتل مئات الجنود من الجيش الإسرائيلي بشكل غير مسبوق٬ وتفاقمت الخسائر بسبب الشعور المتزايد بالفشل الاستراتيجي. وفي أواخر الشتاء، أعادت إسرائيل أغلب جنود الاحتياط إلى بيوتهم دون تحقيق أي من أهداف الحرب المعلنة: تدمير حماس وإعادة أكثر من 120 أسيراً ما زالوا في غزة.
واستشهد أكثر من 38 ألف فلسطيني في غزة، وفقاً لوزارة الصحة في غزة، غالبيتهم من النساء والأطفال. ويقول الخبراء الإسرائيليون إن الحرب بين إسرائيل ولبنان ستكون كارثية لكلا الجانبين.
وبعد نشر لقطات بطائرة بدون طيار الشهر الماضي لميناء مدينة حيفا الإسرائيلية وقواعد عسكرية ومناطق حساسة، حذر الامين العام لِحزب الله حسن نصر الله من حرب “بلا قواعد وبلا سقف”. ونشر وزير الخارجية الإسرائيلي إسرائيل كاتس يوم الثلاثاء على موقع X: “نصر الله، إذا لم توقف التهديدات والعنف وتنسحب إلى نهر الليطاني، فسوف تعتبر مدمر لبنان”٬ على حد تعبيره.
لكن خبراء يقولون إن الغزو الإسرائيلي للبنان قد يكون بمثابة “فخ”، يجر إسرائيل إلى حرب مرهقة أخرى ليس لها نهاية. حيث هناك اعتقاد خاطئ في إسرائيل بأن الحرب هناك يمكن أن تنتهي في غضون أيام أو أسابيع. كما أن مشاهد الدمار في لبنان ستؤدي إلى تكثيف الضغوط الدولية على إسرائيل وزيادة التوترات مع واشنطن ودول أخرى.