جوني منيّر – الجمهوريّة
رغم هول مجزرة مجدل سلم وخلفياتها الغامضة إلّا أنّها جدّدت التأكيد مرّة إضافية بأنّ ظروف الذهاب الى الحرب المفتوحة ليست متوفرة، رغم أنّ ذلك لا يعني بأنّ مستوى التوترات سيبقى منخفضاً، لا بل على العكس فإنّ «الردّ» الإسرائيلي سيرفع من منسوب التوتر والحماوة، ولكن من دون الذهاب الى الحرب الكاملة.
ويتوافق هذا الإستنتاج مع ردّ الفعل الأميركي إثر حصول المجزرة، وكان لا يزال رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو موجوداً على الأراضي الأميركية. فالكلام الصادر عن واشنطن ذكر بأنّ الإدارة الأميركية تؤيّد حصول ردّ إسرائيلي ولكن مدروساً. ولا حاجة للتفسير بأنّ واشنطن تشترط ألّا يشكّل الردّ مدخلاً للإنزلاق باتجاه الحرب. والموقف الأميركي هنا مهمّ وأساسي، كون نتنياهو يدرك بأنّه غير قادر للذهاب إلى مغامرة حربية في لبنان من دون الدعم الأميركي الكامل والواضح.
وعدا إسراع الوفد الإسرائيلي في تسريب «الأجواء العاصفة» التي أحاطت بلقاء نتنياهو مع المرشحة المفترضة عن الحزب الديموقراطي كامالا هاريس، إلّا أن اجتماع رئيس الحكومة الإسرائيلية بالرئيس الأميركي جو بايدن بدا بارداً وأعقبه على الفور موقف لمستشاره آموس هوكشتاين جاء فيه: «نتطلع الى إنهاء الحرب في غزة ولبنان». وهو ما يعني ضمناً أنّ واشنطن تعارض الذهاب الى الحرب المفتوحة في لبنان، وهو الطلب الذي حمله نتنياهو الى البيت الأبيض.
فوفق الأجواء السائدة فإنّ نتنياهو لم يعد قادراً على استهلاك الكثير من الوقت للتفلّت من إعلان قبوله بوقف إطلاق النار في غزة. فهامش المناورة ضاق أمامه كثيراً، وهو ما قد يدفعه للذهاب الى هذا الإعلان خلال الأسابيع المعدودة المقبلة. لكن نتنياهو يدرك جيداً أنّ إعلان وقف الحرب نهائياً وعلى كل الجبهات سيؤدي الى سقوطه الدراماتيكي. فالشارع الإسرائيلي والذي لا يزال يعارضه بنسبة غالبة ويحمّله مسؤولية هجوم السابع من أكتوبر، سيتهمه بالفشل في غزة. فصحيح أنّه دمّر معظم قطاع غزة، إلّا أنّه يعرف أيضاً أنّ «حماس» لا تزال موجودة تحت الأرض وفي الأنفاق، وهي تحتفظ بنسبة تقارب الـ40% من قوتها. والأهم أنّ الشارع الإسرائيلي سيشير بأصابع الإتهام الى الوضع عند حدوده الشمالية، للإشارة الى بقاء «خطر» «حزب الله» كما هو عليه، ما سيمنع سكان مستوطنات الشمال من العودة الى بيوتهم. وجاء استطلاع القناة 13 الإسرائيلية اليمينية ليعزز مخاوف نتنياهو لناحية وجوب الاستمرار في الحرب. ذلك أنّ نتائج الاستطلاع أظهرت أنّ 47% يرون أنّ هدف زيارة نتنياهو كانت لمصلحة شخصية في مقابل 40% رأوا أنّها لمصلحة وطنية. ما يعني أنّ نتنياهو لا يستطيع الوقوف هنا وإلّا فستسقط دراجته.
لذلك، سمعت مختلف الأوساط الديبلوماسية من الحكومة الإسرائيلية بأنّ وقف النار في غزة لا يعني وقفاً للنار في لبنان، لا بل على العكس ستكون بدء المرحلة الخطرة عليه. وهنا لا بدّ من إدراج رسالة «حزب الله» حول إطلاق صاروخ أرض جو، والذي اعتُبر تجاوزاً للخط الأحمر، بمثابة رسالة جوابية لتل أبيب.
ولكن نتنياهو يدرك أنّ الحرب مع «حزب الله» ستعني دخول إيران وكل القوى المتحالفة معها على خط الحرب، وهي النقطة التي استوجبت طلب نتنياهو مساعدة واشنطن كونها الوحيدة القادرة على منع إيران من التحرك.
لكن قد تكون إحدى أبرز الخلاصات التي خرج بها نتنياهو من زيارته إلى واشنطن، بأنّ خط التواصل المفتوح بين الإدارة الديموقراطية وطهران يحمل في طياته تفاهمات حصلت وأخرى في طريقها للحصول على مستوى المنطقة. وأنّ المفاوضات غير المباشرة والتي حصلت ولا تزال قائمة في سلطنة عمان، قطعت مسافة لا بأس بها، بخلاف السجالات الإعلامية القائمة، ولو أنّه لا يزال هنالك مسافة متبقية ليست بقليلة. وهو ما يعني بأنّ الذهاب الى حرب عسكرية مباشرة مع إيران وهمٌ أكثر منه واقع حقيقي.
وهو ما يعني بأنّ تركيز نتنياهو على إيران في خطابه أمام الكونغرس وسط تصفيق قياسي، لن يجد له ترجمة فعلية، على الأقل طالما أنّ الحزب الديموقراطي يمسك بالبيت الأبيض.
ويمكن ملاحظة ردّ الفعل الإيراني السريع على التهديدات الإسرائيلية بعد صاروخ مجدل شمس، والتي استبعدت انزلاق الأوضاع باتجاه الحرب، وهو ما يعكس نوعاً من الإطمئنان المبني على شيء ما.
حتى إسرائيل، فهي حرصت على الإشارة عن ضربة قوية ولكن من دون أن تعني الذهاب الى الحرب. وحتى في المعطيات الميدانية فإنّ التعزيزات العسكرية الإسرائيلية باتجاه الحدود مع لبنان جاءت محدودة جداً وبما لا يتناسب أبداً مع حالة الإستعداد للحرب.
كذلك، فإنّ نظرية أن تبدأ إسرائيل بالحرب في أواخر ولاية بايدن ومن ثم «تهدي» التسوية لترامب لا تبدو واقعية. فالدخول الصاروخي لكامالا هاريس يوحي بأنّ القوى الكبرى المؤثرة في الانتخابات تصطف بمعظمها وراء الديموقراطيين. ولا بدّ أن يكون الجمهوريون قد راقبوا بتمعن تخطّي التبرعات المالية لحملة هاريس الـ100 مليون دولار في خلال 36 ساعة فقط. فعنصر المال هو مؤشر كبير وعامل أساسي في الحملات الإنتخابية الرئاسية الاميركية. وكذلك ذلك الدفع الإعلامي القوي، ما أدّى الى حجب حدث بحجم محاولة إغتيال ترامب.
وإذا أضفنا على ذلك مقاطعة 112 نائباً و28 سيناتوراً من الحزب الديموقراطي وفي طليعتهم هاريس نفسها لكلمة نتنياهو، فهذا يعني بأنّ أزمة نتنياهو مع إدارة بايدن الآيلة للرحيل ستتجدّد وبحدّة أكبر ربما مع الإدارة الديموقراطية المقبلة إذا ما فازت بها هاريس. وهنالك من تحلو له إجراء مقاربة لمسار الإنتخابات الرئاسية الاميركية بالانتخابات النيابية الفرنسية، ومن زاوية تكرار سيناريو خسارة اليمين المتطرّف ولو بعد بداية صاروخية.
ولكن عدم موافقة واشنطن على الذهاب الى الحرب المفتوحة في لبنان لا يعني بأنّ البديل تثبيت الواقع القائم حالياً. وهذا ما يفسّر عدم الاعتراض على رفع مستوى الحماوة ولكن مع محاذرة الإنجراف الى الحرب، والفرق شاسع.
فالتفاهمات التي انتجتها مفاوضات سلطنة عمان لا تزال جزئية. والمقصود هنا الجانب المتعلق بالاستقرار الداخلي لإيران. أما في الجانب المتعلق بالنفوذ في المنطقة فهو لا يزال يخضع لتجاذب كبير. ويبدو أنّ الملف النووي واستطراداً رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران، مرتبط بهذا الجانب من زاوية ضمان «الحدّ من تمويل» المجموعات المتحالفة مع إيران في المنطقة. والمؤشرات حول ذلك عديدة بدءاً من عودة «التحرشات» الصاروخية المدروسة بالقواعد الأميركية بعد أشهر من الهدوء بدءاً من شهر كانون الثاني الماضي يوم قيل إنّ مفاوضات سلطنة عمان حققت بعض التفاهمات. والملاحظ أنّ هذه العودة تزامنت مع اتفاق أمني أميركي- عراقي جرى التوقيع عليه في واشنطن، والذي طال مستقبل القوات الأميركية في العراق. وهي تزامنت أيضاً مع التحرك الروسي لنسج مصالحة بين دمشق وأنقرة ستطال حتماً ترتيبات في شمال سوريا. وغابت طهران عن هذه الحركة. ولفت هنا تعرّض المواقع التركية خصوصاً شرق إدلب لقصف من مناطق تسيطر عليها ميليشيات متحالفة مع إيران. ووضع المراقبون ذلك في إطار الرسائل الإيرانية المعترضة. كذلك يعتقد هؤلاء أنّ النظام السوري غير قادر في الظرف الراهن على التقدّم بأي خطوة باتجاه موسكو وأنقرة خشية أن يشكّل ذلك خطراً كبيراً على بنية النظام.
أضف الى ذلك، تقدّم إيطاليا (أول دولة في مجموعة السبع الصناعية) بعد السعودية للتطبيع مع دمشق، ولتشكّل خطوة أولى على طريق التطبيع الأوروبي مع بشار الأسد لاحقاً. صحيح أنّ التبرير هو لمعالجة ملف اللاجئين السوريين، لكنه يخفي في طياته سعياً للتخفيف من التأثير الإيراني والذي أصبح كبيراً في دمشق.
في المقابل، فإنّ المرونة التي أوحت بها طهران مع وصول مسعود بزكشيان إلى الرئاسة لم تجد لها الصدى المطلوب. فأغلب الظن أنّ رفع العقوبات مرتبط بالتفاهم على خارطة النفوذ أكثر منه التعويل على نهج إصلاحي على مستوى الرئاسة الإيرانية يبقى شكلياً.
وهو ما يعني استنتاجاً أنّ الخط المفتوح بين الإدارة الديموقراطية الأميركية وطهران حقق بعض الخطوات، ولكن الخطوات الأصعب لا تزال بعيدة عن التفاهمات. واستطراداً فإنّ ترجمة ذلك ميدانياً تعني بأنّ الذهاب الى الحرب المفتوحة في لبنان، والتي يمكن أن تتوسع لتصبح إقليمية، لا تجد ظروفاً مؤاتية لها، لكن البديل المسموح يمكن أن يكون بارتفاع اللهيب الى مستويات جديدة وصعبة، ولكن تحت سقف الحرب الشاملة. وقد يكون هذا ما قصده الرئيس الروسي ڤلاديمير بوتين خلال استقباله الرئيس السوري حين عبّر آسفاً عن وجود ميل للتصعيد، وأنّه «يمكننا أن نرى ذلك». وبوتين المعني جداً بمصالح روسيا في سوريا استخدم مصطلح تصعيد وليس الحرب.
وبذلك تبدو خيارات نتنياهو محدودة، وفي طليعتها السعي لاستثمار الوقت وصولاً الى الانتخابات الرئاسية الاميركية، ومراهناً على «حصان» الجمهوريين، وهو الذي يدرك بأنّ قيادة الحزب المتوجسة منذ قرار بايدن بالإنسحاب، أوعزت الى ماكينتها الإنتخابية العمل بأقصى طاقتها عبر «مسح» منازل الأميركيين المخولين بالإقتراع بيتاً بيتاً على الطريقة اللبنانية، لتحفيز الناخبين ودفعهم للمشاركة، خصوصاً أنّ نسبة غير المبالين ليست ببسيطة. لاسيما وأنّ آخر الاستطلاعات الداخلية لهم أظهرت أرقاماً سيئة في ولايات مصيرية كمثل ڤرجينيا، والتي أظهرت تراجعاً جمهورياً رغم أنّ حاكمها جمهوري.
ووفق هذه الحسابات، فالاعتقاد الأغلب أنّ ارتفاع مستوى النار قد يستهلك الأشهر الثلاثة الفاصلة عن موعد فتح الصناديق، وهذا ما أوحى به القرار الإسرائيلي بتمديد قرار إغلاق العام الدراسي في مستوطنات الشمال لعام إضافي.