كان لافتاً منسوب الصراحة في الخطاب الأخير لأمين عام “حزب الله”، حسن نصر الله، تحديداً حين تحدث للمرة الأولى عن “إنجازات” الاحتلال الإسرائيلي وعدم ضعفه، خلافاً للمعتاد ترداده على شاشات الممانعة. لكنه تحدث كذلك عن الألم عندنا (مع التبريكات) والألم المقابل، لجهة القدرة على إلحاق الأذى بالإسرائيليين كما يحصل مع الجانب اللبناني عند الحدود.
كان اللبناني فقط يُهجَّر، واليوم صار الإسرائيلي كذلك مهجّراً ويُعاني. بحسب المنطق هذا، الاشتراك في ألم التهجير والدمار بين الطرفين العدوَّين يُخفف المعاناة لدينا ويقلب الصورة. وهذا جزئياً صحيح، لناحية رفع الضغط لإنهاء حرب غزة، لكن ما لم يدخل في هذه الحسبة هو الواقع المالي المتفاوت بين الطرفين. إذ تأتينا الحرب بعد نصف عقد من الانهيار المالي والاقتصادي والفراغ السياسي والحكومي، فيما كان الجانب المقابل يُراكم النمو المضطرد (تقلّص الناتج المحلي اللبناني بأكثر من نصف ما كان عليه، فيما تضاعف الإسرائيلي خمس مرات منذ الحرب الأخيرة). طبعاً في الحسبة كذلك، الخسائر البشرية المتفاوتة، مع عشرين ضعفاً في جانبنا، نسبة لما يُعانيه الجانب الآخر.
في الماضي الذي يُشير اليه نصر الله، هناك فوارق متعددة. أولاً، باتت لدى “حزب الله” قدرة ردع أعلى، تحول دون التمادي الإسرائيلي وشن عدوان واسع كردّ فعل أوّلي. لكن هذا الردع يفقد أهميته ويصير تكتيكاً موقتاً وليس مكتسباً دائماً، نظراً للعب المستمر على الحافة، كمثل دخول “الحزب” في حرب غزة في 8 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أو قبلها الانخراط في بناء قدرات فصائل وتحالفات إقليمية مختلفة. الردع حينها لا يهدف الى استقرار دائم بل إلى إيجاد مساحات لإيذاء العدو وتأجيل الحرب المحتومة.
ثانياً، الفارق في القدرة النارية لم يتلاشَ كثيراً. والدليل أن الدمار والقتل لدينا أعلى بأضعاف كثيرة. وفي الحرب، رفع الجانبان قدرتهما التدميرية، لكن الفارق النسبي بينهما لم يتقلّص كثيراً. في إسرائيل، مزيج من الملاجئ وأنظمة الدفاع الجوي والتحالفات الدولية والإقليمية والإنذار المبكر، سيُخفف عديد الضحايا المدنيين. لدينا، سيُقتل المدنيون بأضعاف مما يسقط لدى الجانب الآخر. وهذا كان سلاحاً فعّالاً سابقاً في مواجهة الاحتلال، حين يتفاعل الرأي العام العالمي وتحديداً الغربي مع صور الأشلاء والأطفال القتلى، ومن ثم ترتفع الضغوط على إسرائيل لتتراجع. اليوم، يجب الانتباه جيداً إلى هذا التحول. بات جزء ليس بالبسيط من الرأي العام الغربي مشحوناً ضد منطقتنا الولّادة للمهاجرين. يربط هؤلاء المواطنون في الغرب بين كراهيتهم لجيرانهم المهاجرين، وبين الضحايا في المنطقة، وإسرائيل اليمينية تُساهم أيضاً في بلورة هذه الصورة وهذا الرابط.
والحقيقة أن الخصم الذي يندفع الى ارتكاب فظائع بحق المدنيين، كان غالباً يُورّط نفسه ويُضرّ بصورته في مواجهة الآخر، وهذا كان مقتل مَن يُواجه فصائل مسلحة مختلفة، أكان بين الولايات المتحدة والفيتكونغ، أو في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، أو في حروب التحرير من الاستعمار الغربي. هذا السلاح لم يعد ناجعاً هنا، بل بالعكس، هو عقاب جماعي طويل الأمد له تبعات أكبر على الجانب اللبناني.
ذاك أن الأخلاق والصدمات الليبرالية حيال سقوط الضحايا المدنيين، اضمحلا بشكل كبير منذ الحربين العراقية والسورية وانتهاءً بحرب غزة. هكذا، لم يعد السلاح الأقوى ناجحاً في إبعاد مرارة الحرب. يبقى السلاح الوحيد هو إيقاع خسائر كبيرة في الجانب المقابل لدفعه إلى وقف الحرب. حتى الآن، لم يُظهر “حزب الله” هذه القدرة، هو يُهدد بها، لكن الخسائر الإسرائيلية للآن لا تُوحي بالكثير، ناهيك عن أن إطالة أمد التهجير ليست كافية لوقف الحرب. والدخول في مواجهة مُدمرة بسلاح أو تكتيك غير مجرّب، يُعد أشبه بمقامرة بأعضاء بشرية قد لا تبقى حياة بعد خسارتها. المشكلة هي في عدم توافر رادع عن الحرب. نصر الله يقودنا بسيارة بلا مكابح، ويُواصل الإسراع، على أمل تبدّل ظروف لا نراها.