لنسلّم جدلاً أن السردية الإسرائيلية صحيحة. لنفترض مثلاً أن “جيش” الاحتلال نجح في إحباط عملية رد واسعة بمئات أو آلاف الصواريخ والمسيّرات التي كانت تستهدف الجليل ومنشآت حيوية وسط “إسرائيل”. هذا من دون شك يمثّل إنجازاً.
باختصار، اكتشف الطرف الإسرائيلي نية حزب الله وخططه وأحبطها قبل أن تبدأ. هذا يؤكّد جملة أمور.
حزب الله ليس مردوعاً
وفق هذه الرواية، هذا يعني الآتي: انتظرت المقاومة في لبنان 25 يوماً لترد على اغتيال الشهيد فؤاد شكر. مدة كافية ليس فقط للتخطيط للعملية، بل أيضاً لدراسة جميع الجوانب بالغة الحساسية والخطورة المحيطة بها.
هذه الجوانب تتعلق بضغوط عسكرية جسّدها حشد الأساطيل الأميركية واستنفار استثنائي من قبل حلف العدو في فلسطين المحتلة وفي المنطقة، إضافة إلى ضغوط سياسية وأمنية في الداخل اللبناني من قبيل افتعال مشاكل مع النازحين من قرى الجنوب وتعويم خطاب يحمّل حزب الله تبعات ما سيحصل، معطوفة على تحذيرات دولية وأممية وإقليمية، تواكبها ماكينة ضخ دعائي وبروباغندا سوداء موجّهة لتثبيط وتيئيس بيئة المقاومة في محاولة للضغط عليها من باب أن موازين القوى تغيّرت، وأن العالم كله يقف إلى جانب “إسرائيل”، ما يتطلب إعادة نظر في أصل المواجهة.
بموازاة ذلك كلّه، تهويل غربي وتهديد “إسرائيلي” واضح صريح وعالي النبرة.
رغم كل ذلك، تعترف السردية الإسرائيلية بشكل واضح أن حزب الله اتخذ قراراً بأن تكون الضربة واسعة ومؤلمة ومؤثرة. تؤكّد هذه السردية أن المقاومة، لولا لم تحبطها “إسرائيل”، كانت تمتلك شجاعة تنفيذ عملية رد فاعلة كانت ستؤدي في حال نجاحها إلى تصعيد خطير.
لماذا كانت ستؤدي إلى تصعيد؟ لأنها تضع الجانب الإسرائيلي، ولو مُكرهاً، في موضع المُجبر على الرد؛ حفاظاً على ماء وجهه، والتزاماً بتعهدات أطلقها مسؤولون إسرائيليون، وحفاظاً على قواعد الردع في الآن نفسه.
المغزى هنا: هل يكون مردوعاً من يفكر في عملية رد بهذا الحجم؟ إذاً، قواعد الردع بعد اغتيال شكر لم تتهاو إلى ذاك الحد الذي بالغ البعض بتصويره.
محاولة أولى
لنصدّق قليلاً أن الجانب الإسرائيلي نجح في إفشال “عملية الأربعين” في ذروة الاستنفار العسكري الأميركي والإسرائيلي، وقمة الاستعداد العملياتي واللوجستي والإطباق الاستخباري.
الواقعة تتعدّى هنا مسألة إقصاء تقدير استخباري مبني على أساس أن حزب الله مردوع. هذا الردع، وفق التقدير المُشار إليه، يستند إلى وجود اختلال في موازين القوى ناتج من حضور الأساطيل الغربية، كما يستند إلى قيود لبنانية داخلية ذات أبعاد أمنية واجتماعية واقتصادية، طالما افترضت جهات إسرائيلية أنها تلجم وتقيّد المقاومة في لبنان.
لو أردنا أن نصدق الرواية الإسرائيلية، فإن المسألة تتعلق بفشل (محاولة أولى) في استهداف ضاحية “تل أبيب”، لكنّها لا تلغي وجود النية والقصد والإرادة في ضربها. لنفترض أن المحاولة الأولى فشلت، هل تضمن “تل أبيب” أن تفشل المحاولة الثانية وما يليها؟ النية والإرادة هنا أهم من المحاولة، فهي سابقة لها وشرطية لوجودها. يمكن أن تتعدد المحاولات بوجود القصد، لكن مُحال وجود المحاولات مع انتفاء الإرادة والنية.
ضمان إفشال المحاولات اللاحقة يحتاج من الجانب الإسرائيلي إلى يقظة مستمرة ودرجة استنفار عالية وتؤهب مستمر، عدا عن حضور أميركي تبين أنه لا غنى عنه، فهل ستبقى الأساطيل الأميركية حاضرة طوال الوقت للدفاع والردع؟ وماذا لو جعلت المقاومة “إسرائيل” تنتظر 40 يوماً في المرة المقبلة بدل 25 يوماً وزادت جرعة العملية، وأعدّت لها كل ظروف النجاح ومقدراته، مستفيدةً من التجربة الأولى؟
روايات متضاربة
إذا سلّمنا جدلاً بنجاح “إسرائيل” في إفشال رد حزب الله، تبقى أمامنا مشكلة؛ أي نسخة إسرائيلية علينا أن نعتمد؟
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تحدث عن أن “جيشه” دمّر “آلاف الصواريخ قصيرة المدى، وكانت جميعها تهدف إلى إلحاق الأذى بمواطنينا وقواتنا في الجليل”، وأنه اعترض جميع الطائرات من دون طيار التي كانت متجهة إلى “هدف استراتيجي في وسط البلاد”، فيما نقلت إذاعة “الجيش” الإسرائيلي عن مصدر مقرب من نتنياهو أن عدد الصواريخ والمُسيَّرات التي كان حزب الله ينوي إطلاقها يفوق 6000.
في المقابل، خفّض المتحدث باسم “الجيش” الإسرائيلي ما كان ينوي حزب الله إطلاقه إلى “عدة مئات من الصواريخ”. في معرض آخر، قال “جيش” الاحتلال إن نحو 100 طائرة مقاتلة قصفت ودمرت “الآلاف من قاذفات الصواريخ التابعة لحزب الله، والتي كانت موجّهة لإطلاق النار فوراً نحو شمال إسرائيل ووسطها”.
عادت إذاعة “الجيش” الإسرائيلي لتذكر لاحقاً أن المزاعم بشأن “تدمير آلاف منصات إطلاق الصواريخ لا تعني أن حزب الله كان يخطط لإطلاق جميع هذه الصواريخ نحو إسرائيل”.
في كل الأحوال، يدرك الجانب الإسرائيلي أن جوهر الرد لا يتعلّق بعدد الصواريخ بقدر ما يتعلق بعدد الأهداف المنشودة وطبيعتها، وأن جزءاً كبيراً من الصواريخ التي أصبحت تعدّ بدائية في ترسانة المقاومة، باتت تستخدم لغرض إغراق الدفاعات الجوية وتسليك مسارات الوسائط المخصصة للوصول إلى أهدافها. هذا النوع من الصواريخ (الكاتيوشا) أشار السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير إلى وجود عدد كبير منها، بما يعني أنها تكفي لمعركة طويلة تمهّد الطريق أمام آلاف الصليات الدقيقة.
لم نشهد يوم القيامة
لنفترض أن الضربة الاستباقية كانت ناجحة، لماذا إذاً جرى فرض تعتيم إعلامي ورقابة عسكرية على الحادثة؟ والأهم لماذا لم تعتمد “إسرائيل” على رد حزب الله الفاشل ونيته إلحاق الأذى فيها، باعتباره ذريعة لجرّه إلى تصعيد وأيام قتالية تحرجه داخلياً، وتدفعه إلى التراجع وتقديم تنازلات، في إطار مسعاها إلى إيجاد حل لمعضلة حدودها الشمالية؟ لمَ لم تفعل ذلك ما دامت متفوقة إلى هذا الحد؟
بدلاً من ذلك، سارعت “تل أبيب” إلى احتواء ما جرى، وعكست تصريحاتها الرسمية رغبة في التراجع. أعلن وزير أمنها يوآف غالانت أن الحرب على حزب الله ستأتي في المستقبل البعيد وليس الآن، وقال إنه تحدث مع وزير الدفاع الأميركي و”ناقشا أهمية تجنب التصعيد الإقليمي”. هذا كلام من كان يهدّد بإعادة لبنان إلى العصر الحجري.
أما وزير الخارجية الإسرائيلي كاتس فقد أعلن أن كيانه لا يسعى إلى حرب واسعة النّطاق، فيما كانت نبرته مختلفة منذ أقل من شهر عندما أعلن في 27 تموز/ يوليو الماضي أن “إسرائيل” تقترب من لحظة حرب شاملة في الشمال ضد حزب الله.
في هذا الإطار، ذكرت صحيفة “إسرائيل هيوم” أن “إسرائيل” نقلت رسالة إلى مجموعة من الأطراف الأجنبية للمساعدة في منع التصعيد، وأنها لا تنوي تحويل عمليتها الاستباقية إلى حرب واسعة النطاق. وفي لغة ناعمة ورخوة وغير مألوفة في الخطاب الإسرائيلي، نقلت الصحيفة موقف “إسرائيل” الرسمي إلى الوسطاء: “إذا كان حزب الله راضياً عن ردّه اليوم، فإن إسرائيل لن توسع الحملة، وسيمكن إغلاق ملف اغتيال فؤاد شكر”.
لماذا انكفأت “إسرائيل”؟
يعبّر انكفاء “إسرائيل” عن التصعيد عن واحد من الاحتمالات التالية:
– إما أن رد حزب الله كان مفاجئاً ورادعاً، وسندّعي أن هذه مجرد فرضية من بين مجموعة فرضيات، ونؤجل استعراضها إلى المقال التالي.
– إما أنها أرادت طيّ هذه الجولة التي تعتبر أنها انتصرت فيها. لكن، في هذه الحالة، حالة النصر، من المفترض أن يشكّل هذا دافعاً لديها لمواصلة التصعيد وليس للجمه، عدا عن أن لغة الاحتواء والرغبة في عدم التصعيد آنفة الذكر لا تساند هذا الاحتمال، كذلك ملامح وجوه قادة الاحتلال خلال اجتماعهم عقب الضربة، إذ عكست تلك الملامح تعبيراً واضحاً عن استياء وأكثر.
– الاحتمال الثالث أن يكون الطرف الأميركي مارس ضغوطاً للجم “إسرائيل”. ذلك لا يكون إلا انطلاقاً من تقديرات حول قدرة المقاومة على التسبب بخسائر للطرفين الأميركي والإسرائيلي، أو تفادياً لمخاطر توسّع الصراع واندلاع حرب إقليمية، ما يعني أن هذا الاحتمال، في حال صحته، هو رادع للطرف الأميركي المؤثر بدوره في صانع القرار الإسرائيلي، مثلما هو رادع لمحور المقاومة، أو لأن التصعيد بمستوياته المتدرجة يمكن أن يسبب خسائر لحملة كامالا هاريس، وبذلك يكون هذا الاحتمال ظرفياً، ويمكن أن يتغيّر لاحقاً.
مهما كانت الاحتمالات السابقة، فإنها تدلّ غالباً على اتجاهات الصراع في المستقبل القريب، بما يسمح بالقول إن المنطقة لا تتجه إلى تصعيد إقليمي، حتى موعد الانتخابات الأميركية بالحد الأدنى، في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، أو حتى موعد تسلم الرئيس الجديد السلطة بداية العام، خصوصاً إذا كان دونالد ترامب هو الفائز، والذي يقال إن نتنياهو يراهن عليه.
سيؤكد الرد الإيراني المرتقب، إضافة إلى الرد اليمني، هذه الوجهة أو ينفيها، وبانتظار أن تغلق طهران هذا الحساب، يُستشف من كلمات السيد نصر الله في خطابه الأخير هذا الاتجاه، وأن الانضباط انتظم ضمن قواعد الاشتباك السابقة.
المعضلة الإسرائيلية مستمرة
لنفترض أخيراً أن احتمال التصعيد مع حزب الله وتالياً في المنطقة انكفأ مؤقتاً، وأن خسائر وقعت في محور المقاومة نتيجة هذه الجولة، وأن رد حزب الله لم يكن بالمستوى المطلوب. ماذا يغيّر هذا الأمر من الواقع الإسرائيلي الضاغط والحرج في جبهته الشمالية؟ هذه مناسبة لإعادة ترتيب المعطيات وفق جدولها الزمني وأبجديتها المنطقية، خلافاً للمغالطات التي تُساق في إطار محاولة توهين جبهة لبنان.
أولاً، من بدأ هذه المعركة منذ اليوم التالي لعملية “طوفان الأقصى” هو حزب الله، وقد أقدم على ذلك بكل جرأة بما يمثّل سابقة في تاريخ الصراع بين لبنان و”إسرائيل”، ورغم كل المخاطر والأكلاف التي تنطوي عليها هذه الخطوة، ورغم الفارق الكبير في التقدّم التقني بين الطرفين.
تبعاً لذلك، من غير المنطقي قياس نجاح الجبهة بحجم الخسائر البشرية على طرفي الحدود. لكل حرب أهداف سياسية وعسكرية ولا تُخاض الحروب بدافع الثأر والانتقام. منذ البداية، وضع حزب الله هدفاً واضحاً ومُعلناً، وربط توقف جبهة الإسناد اللبنانية بشرط وحيد هو وقف الحرب على غزة. رغم كل الأكلاف، الباهظة أحياناً، التي يدفعها الحزب وبيئته الحاضنة، فإن الجبهة مستمرة بفعالية وتأثير، وبالقدر الذي يجنّب الجبهة الداخلية وبقية البلاد ما أمكن من تبعات وخسائر.
في المقابل، تخوض “إسرائيل” الحرب ضد حزب الله انطلاقاً من واقع أكثر تعقيداً. هدفها لم يعد يقتصر على إخماد جبهتها الشمالية الملتهبة، بل على معالجة تبعات وتداعيات ما أقدم عليه حزب الله، وإيجاد علاجات جذرية تطمئن المستوطنين وتسمح بوجود بيئة آمنة تلبّي شروط الاستيطان، عدا عن مشكلة هيبتها وردعها، لذا يجري الحديث عبر الوسطاء عن تطبيق القرار 1701 وإبعاد المقاومة عن الحدود، كما يجري استخدام التهويل والتهديد وسيلتين من وسائل ردع المقاومة، وهي محاولات مستمرة منذ ما يقارب 11 شهراً، لكنها بلغت ذروتها خلال الفترة التي فصلت بين اغتيال القيادي فؤاد شكر وبين تنفيذ عملية الرد على اغتياله.
“إسرائيل” تفوّت الفرصة
ما يهمّ قوله على هذا الصعيد هو أن “إسرائيل” لا تحتاج إلى ذريعة لتوسيع حربها ضد حزب الله. لو كانت واثقة من أنها قادرة على ذلك وعلى دفع فاتورة هذه الخطوة لكانت أقدمت عليها منذ أشهر، وحجتها أن حزب الله يخرق سيادتها ويستهدف أراضيها. صحيح أنها في إطار الصراع على الشرعية، وعلى مستوى الجبهة الدبلوماسية، تعمد أحياناً إلى اختلاق ذرائع مثل ما حصل في مجدل شمس وما تبعه من اغتيال السيد محسن، لكن الذريعة هنا مرتبطة بقواعد الاشتباك، ولها سياق مختلف. ضمن قواعد الاشتباك التي كانت سائدة مثّل اغتيال شكر في الضاحية الجنوبية خرقاً للخطوط الحمر بالنسبة إلى حزب الله، ما حتّم عليه الرد بصورة تعيد ترميم الردع، وتعيد الطرف الإسرائيلي إلى الانضباط ضمن القواعد المرسومة.
المهم في هذه النقطة أنها مثّلت فرصة للطرف الإسرائيلي من أجل استخدام المزيد من القوة وتوسيع دائرة الدمار والنيران في لبنان بهدف الوصول إلى هدفها القاضي، قبل أي شيء، بعودة الهدوء إلى مستوطنات خط المواجهة. لم يفعل الطرف الإسرائيلي ذلك. بقي جرحه الغائر شمالي فلسطين مفتوحاً على احتمال المضاعفات الخطرة التي يكابدها، والتي تزداد خطورتها كلما مرّ المزيد من الوقت.
هذه مناسبة من أجل استعادة كل سرديات التهويل والتثبيط والتهديد التي سيقت في الأيام والأسابيع الأخيرة على المستوى الدولي والأممي والإقليمي، وساهم فيها بشكل خاص بعض الإعلام المحلي اللبناني ووسائل التواصل الاجتماعي. تحت عناوين التسريبات والتقديرات والمصادر الموثوقة، جرى الترويج أن حزب الله بات في مأزق، وأن الحرب واقعة لا محالة، وأن المقاومة في لبنان وقعت في فخ مميت لن ينجو منه البلد ولا الحزب، فيما نقل صحافيون معلومات “مؤكدة” عن أن استعدادات حلف “الناتو” وحلفاء “إسرائيل” اكتملت في البحر المتوسط وفي المنطقة، وأنه لم تعد تفصلنا عن الحرب سوى ساعات وأيام.
لم تقع الحرب الموسعة، لكن مسلسل التهويل كامن عند كل منعطف، وسيعود مجدداً. يجب توجيه السؤال في هذه الجزئية نحو السبب الذي منع اندلاع هذه الحرب: هل هو فشل حزب الله في الرد أو ردّه الهزيل؟ أم الأكلاف العالية وربما غير القابلة للاحتمال التي سيتكبّدها الإسرائيلي (أو الأميركي) من جراء ذلك؟
لو كانت قدرات حزب الله مماثلة لقدراته عام 2006، فإن “إسرائيل” لم تكن لتتردّد لحظة في شن حرب استباقية على حزب الله من دون حجج أو ذرائع، وفوق ذلك بدعم أميركي. هل هذا يعني أن الحرب الموسّعة أو الاغتيالات الأمنية الإسرائيلية غير واردة مستقبلاً؟
قد تطول هذه الحرب لمدة أطول مما كان يُتصوّر في البداية. الأمور كلّها واردة، لكن يبقى الاحتمال الأقوى منذ اليوم التالي لـ”طوفان الأقصى” وحتى مشارف الشهر الـ11 أن الحرب الموسّعة مستبعدة، لكنها غير مستحيلة.
علي فواز – الميادين