في حمأة اشتعال الجبهة الجنوبية وشيوع مناخ القلق في لبنان، وانشداد الأعصاب والعيون نحو الرد الانتقامي المنتظر على إسرائيل، مر التقرير نصف السنوي لمؤسسة التصنيف العالمية ستاندارد آند بورزS&P من دون الصخب السياسي والإعلامي الذي يرافق صدوره عادة، خصوصا أنه أثقل بتوقعاته الاقتصاد والليرة اللبنانية بمزيد من السلبية وعدم الاستقرار مستقبلا.
لا ريب في أن التوقعات التشاؤمية التي أتى بها تقرير S&P، لها ما يبررها في أرقام المالية العامة ومصرف لبنان، وفي واقع العجز والتعطيل الذي تعيشه الدولة منذ سنوات. إلا أن الجديد في التقرير، الاستنتاجات المستقبلية لسعر صرف الليرة إزاء الدولار، وقياس ذلك على أرقام وتوقعات في المالية العامة، يعرف الجميع عدم دقتها وشفافيتها. فالارتباك والفوضى كانا سائدين في احتساب العائدات والصرفيات التي لم تكن موحدة حتى الأمس القريب عندما وافق مجلس الوزراء على طلب وزارة المال، ولغايات تسجيل القيود المحاسبية لعمليات النفقات والإيرادات الحاصلة بالدولار الأميركي، اعتماد سعر صرف حددته حسب سعر صرف الدولار المحلي والنقدي المعتمد بين 2020 و2024.
هذه التوقعات السوداوية، قد تكون محقة في تظهير الوجهة المستقبلية الحقيقية للاقتصاد، وربما لا تكون كذلك، لأسباب ومعطيات عدة. بيد أن أكثر ما أثاره التقرير من قلق واستغراب لدى العامة، هو توقعه مزيدا من الانهيار المتدرج لسعر صرف الليرة في الأعوام الثلاثة المقبلة، محددا 2025 عام بدء ارتفاع سعر صرف الدولار إلى 115.000 ليرة بنسبة 28.5%، يليه عام 2026 ارتفاع إضافي يصل إلى 136 ألفا للدولار الواحد، بنسبة 51.9%، وصولا إلى عام 2027 حيث توقع التقرير ارتفاعا كبيراً يصل فيه سعر صرف الدولار إلى حدود 152 ألف ليرة بزيادة 69.8%.
قد تكون تقديرات “ستاندارد آند بورز” مستقاة من واقع الأرقام المستمدة من تقارير رسمية ودراسات علمية خاصة، لكن الغرابة تكمن في إغفال الوكالة أن الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية في السوق تقلصت إلى نحو 57 ألف مليار ليرة، بعد عمليات الشفط المستدام للسيولة التي اعتمدها مصرف لبنان منذ أكثر من عامين. وعليه، بات في يد المركزي ورقة قوة يمكنه استعمالها عند الحاجة، والتدخل لشراء الليرة ولجم أي ارتفاع في سعر صرف الدولار، والسيطرة على المضاربات الممكنة بمبلغ 600 مليون دولار فقط، وهو ما يعادل مجموع السيولة بالليرة اللبنانية في السوق كاملة.
أمام هزالة رقم الـ 600 مليون دولار نسبيا، ووجود احتياط دولاري يزيد على 10 مليارات دولار في مصرف لبنان، وفي ظل توافق حكومي مع حاكمية المركزي يمنحه الغطاء والاستقلالية اللازمين لإدارة معركة الدفاع عن الاستقرار النقدي، كيف للدولار أن يحلق مجددا؟ وكيف لـ”ستاندارد آند بورز” أن يفوتها هذا الاحتمال الذي تناوله كثر في الحلقات البحثية والإعلام؟
مصادر متابعة أكدت أن الكتلة النقدية الموجوده في السوق هي 57 ألف مليار ليرة (ما يوازي 600 مليون دولار)، أي أقل من 6% من احتياط مصرف لبنان المقدر بـ 10 مليارات و300 مليون دولار، وتاليا لا خوف على استقرار سعر صرف الليرة راهنا ومسقبلا. وأكدت المصادر عينها أنه على الرغم من الوضع السياسي والأمني في الجنوب على خلفية حرب غزة، كان في إمكان مصرف لبنان خفض سعر الصرف إلى ما دون 70 ألف ليرة، لو أنه لا يعمد إلى شراء الدولار من السوق لزوم رواتب القطاع العام (أكثر من 110 مليون دولار شهريا) وبعض المدفوعات الأخرى مثل المساعدة للقطاع التربوي (300 دولار لكل أستاذ).
ولا تخفي المصادر أن ثمة نقطة وحيدة يمكن أن تؤثر على سعر الصرف وتجعل توقعات S&P منطقية، تتعلق بما يحكى عن خطة لليلرة الودائع على نحو قد يزيد الكتلة النقدية بنحو 75 تريليون ليرة سنويا، بما سيرفع سعر الصرف إلى نحو 150 ألف ليرة، ويضرب في المقابل القدرة الشرائية للمواطنين الذين يقبضون بالليرة اللبنانية.
وفي مقابل السيناريو المتشائم الذي عرضه تقرير “ستاندرد أند بورز”، تلفت المصادر إلى سيناريو يمكن أن يقلب الوضع رأسا على عقب عبر انتخاب رئيس للجمهورية والمضي بالإصلاحات وضخ أموال من الخارج، وتاليا يمكن أن يتراجع سعر صرف الدولار إلى نحو 60 ألف ليرة.
من جهته، يرى الباحث والخبير الاقتصادي الدكتور #محمود جباعي أن التقرير “استند إلى بعض المعطيات الاقتصادية وحال عدم الاستقرار التي يشهدها لبنان. ومن بين ما استند إليه التقرير غياب الإصلاحات الأساسية المطلوبة من صندوق النقد الدولي، وعدم وجود خطة واضحة للتعافي المالي والاقتصادي، وعدم القدرة على وقف التهريب بما يثير الشكوك لدى الخارج في إمكان حصول عمليات تبييض أموال. وأمام هذا الواقع وفي ظل عدم توافر رؤية مالية واقتصادية، من البديهي أن تتفاقم الأزمات في لبنان.”
أما بالنسبة إلى ما توقعه التقرير من انخفاض في قيمة الليرة اللبنانية، فيوضح جباعي أن “المصرف المركزي عمل بطرق عدة منذ بداية الأزمة عام 2019 على محاولة تخفيف انهيار الليرة، ونجح في ضبط سعرها مقابل الدولار، على الرغم من غياب الحكومة وأي أفق إصلاحي من شأنه تحسين الناتج المحلي. وقد استمر المركزي في هذا المسار حتى استطاع اعتماد سياسة ضبط سعر الليرة بقيمتها الحالية، والمبنية على التماهي بين السياستين المالية والنقدية والمرتبطة بترشيد استعمال الليرة في الدولة وفق حاجاتها، وبما لا يفوق إيراداتها”.
واعتمدت السياسة أيضا على تخفيف طباعة الليرة، وإيجاد حالة دوران للعملة اللبنانية بين وزارة المال والسوق بإدارة من المصرف المركزي، بما يفسر الزيادات في احتياطات المركزي بالدولار المتداول بشكل كبير في السوق اللبنانية.
وإذ يعتبر أن هذه السياسة نجحت وترجمت استقرارا في سعر الصرف لأكثر من عام ونصف عام، يعيد جباعي توافر الدولار في السوق إلى التحويلات الخارجية “البالغة 7 مليارات دولار سنويا، بمعدل أكثر من 500 مليون دولار شهريا، وإلى الحركة السياحية الموسمية التي تدر نحو 3 مليارات دولار سنويا بالإضافة إلى الدولارات المتأتية من الجمعيات المتعددة الجنسية وبعض المنظمات الدولية. زد على ذلك السياسة التي اعتمدها مصرف لبنان وخصوصا حيال دولرة الرواتب بمعدل 120 مليون دولار شهريا، والتعاميم التي تضخ نحو 100 مليون دولار شهريا. وأكبر دليل على أن الاستقرار النقدي مستدام هو قدرة مصرف لبنان على جمع ملياري دولار في سنة واحدة حتى وصلت موجوداته الخارجية إلى نحو 10.5 مليار دولار حاليا، في حين أن حجم الكتلة النقدية بالليرة المتداولة يمكن شراؤها بنحو 650 مليون دولار تقريبا”.
وبحسب جباعي “يجب الاستمرار في هذه السياسة، شرط رفع إيرادات الدولة في الموازنة المقبلة لضبط حركة الليرة، ولو اضطر الأمر إلى فرض بعض الرسوم والضرائب بالدولار لتوفير دولار للخزينة، وهذه الخطوات يجب أن تأتي في سياق خطة تعاف إصلاحية واضحة تشمل العديد من الملفات أبرزها مشكلة الكهرباء وقضية المودعين”.
وفيما يستبعد جباعي الانهيار في سعر الصرف، يؤكد أنه “سيبقى مستقرا شرط استمرار التعاون بين الحكومة والمركزي ووجود رؤية واضحة للإصلاحات المطلوبة”.
سلوى بعلبكي – النهار