إذا كان هدف إسرائيل من وراء تفجير وسائط الاتصال والتواصل الداخلي بين أفراد “
حزب الله” إثبات قدرتها الاختراقية الاستخباراتية وتفوقها التكنولوجي فهي نجحت في ما رمت إليه. ولكن إذا كانت تقصد من خلال هذا العمل الاجرامي الجماعي إضعاف معنويات “الحزب” فإن ردّات الفعل الفورية لدى أغلبية اللبنانيين التي أعقبت التفجير دحضت ما سعت إليه تل أبيب، إذ أن استعداد الشباب والصبايا من مختلف الطوائف لوهب كلية أو عين للأشخاص الذين أصيبوا فاق كل تصور، وأعطى مثالًا حيًّا عما يمكن أن تكون عليه المواجهة في حال فُرضت فرضًا على جميع اللبنانيين وليس على بيئة “المقاومة الإسلامية” حصرًا.
صحيح أن المعنويات العالية في أي حرب هي من الأساسيات للحفاظ على رباطة الجأش، ولكن ما يوازيها أهمية هو قدرة القيادة العسكرية على السيطرة على الانضباط، وهو أمر يدخل في صلب المهام الموكلة حصرًا إلى الكوادر المدّربة على تحمّل الضغط في الظروف القتالية الصعبة.
لا يُخفي “حزب الله” أن هذه التفجيرات الشاملة وفي توقيت واحد قد أربك للوهلة الأولى القواعد الشعبية، خصوصًا أن تناقل بعض المقاطع عن الإصابات والجرحى عبر وسائل التواصل الاجتماعي زاد من حدّ هذه البلبلة، التي ما لبثت أن تحوّلت في مرحلة ما بعد هول الصدمة إلى حال من التضامن التلقائي، حيث شهدت مختلف مراكز
الصليب الأحمر والهلال الأحمر حملات كثيفة للتبرّع بالدمّ، مع ما شهده القطاع الطبي الرسمي من سرعة قياسية في احتواء مفاعيل هذه الكارثة واستقبال جميع الجرحى في كل المستشفيات الخاصة والحكومية عبر محورية التنسيق بين وزارة الصحة ومختلف النقابات المعنية بالمعالجات الطبية على تعدّد الاختصاصات.
وإذا كان هدف إسرائيل أيضًا وأيضًا دفع “حزب الله” إلى الانجرار إلى حرب لا يريدها ولا يسعى إليها، ولكنه لا يخشاها، فيمكن القول إنها نجحت بذلك، لأن ردّة الفعل الطبيعية لدى القيادتين السياسية والعسكرية، وبإدارة حازمة ومحكمة من قبل الأمين العام لـ “الحزب” السيد حسن نصرالله، بالذهاب إلى الخيارات المرّة، بحيث أن أي مواجهة مقبلة ستكون من دون ضوابط أو سقوف بعدما أطاحت إسرائيل بكل المحرمات، وبعدما أحرقت كل الخطوط الحمر، ونسفت كل جسور التسويات، التي كانت لا تزال حتى الأمس القريب ممكنة ومتاحة من خلال المفاوضات الأميركية والأوروبية والعربية للحؤول دون تفاقم الوضع على الجبهة الشمالية لإسرائيل والجنوبية للبنان.
ما أقدمت عليه إسرائيل لم يترك مكانًا للصلح، خصوصًا أن ما يُنقل عن بعض جنرالاتها من تهديدات بتلقين لبنان درسًا لن ينساه قد ترافق مع تحشيد للألوية على حدودها الشمالية بما ينذر بحرب واسعة وشاملة حاول الأميركيون بما يملكون من وسائل ضغط على تل أبيب لإقناعها بالعدول عن فكرة الحرب، ولكن من دون جدوى أو نتيجة. وهذا ما بدا واضحًا من خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها آموس هوكشتاين لتل أبيب، التي غادرها إلى واشنطن، من دون أن يعرّج على بيروت، مع ما لهذا الأمر من دلالات لا تحتاج إلى الكثير من المعطيات والمعلومات لمعرفة سبب عدم تعريجه على العاصمة اللبنانية هذه المرّة. ومن بين هذه الأسباب أنه لم يكن لديه من الأخبار ما يطمئن اللبنانيين بعد الكلام الواضح والصريح الذي سمعه من
نتنياهو وكبار الجنرالات في الجيش الإسرائيلي عن حتمية المواجهة مع “حزب الله” في حرب مخطّط لها، وقد يكون تفجير “البيجر” بهذا الشكل الدراماتيكي من بين أحد مخططات العدو، الذي لن يقف، على ما يبدو، عند حدود معينة من الغطرسة والعدوانية.
فبعد خطاب نصرالله، الذي أبقى كل الاحتمالات مفتوحة كعادته في كل خطاب مفصلي، وبعد كل اعتداء يقوم به العدو، يمكن استنتاج الآتي:
اولًا، كان الخطاب بمجمله عرضًا لواقع الحال عمّا حصل يومي ١٧ و١٨ ايلول، وما نتج عن هذا العمل الاجرامي، الذي قامت به اسرائيل.
ثانيًا، هدف الخطاب إلى إظهار أن العملية المخابراتية، على رغم ضخامتها بمفعولها وتوقيتها، لم تؤثّر على معنويات مقاتلي “المقاومة الاسلامية” على مختلف الجبهات، والدليل أن عملياتهم الاسنادية لم تتوقف، وبقيت على وتيرتها السابقة من دون أي تعديل على البرنامج اليومي للعمليات.
ثالثًا، إن ما انتهى إليه الخطاب، على عكس ما كان متوقعًا، لم يحد عن الخط البياني لسلسلة الخطابات السابقة، والتي كانت تهدف إلى إبقاء العدو في حال من الترقب والانتظار، من دون أن يعرف متى ومن أين وكيف ستأتيه الضربة المقبلة، ومن حيث يحتسب أو لا يحتسب، أومن حيث لن تراه عينه من قبل، ولن تسمع به أذنه، ولن يخطر على باله قط.