نصرالله ولغز اغتياله

هي محطةٌ دمويةٌ جديدة يمرّ فيها 
 لبنان
 ضمن سلسلة عدد من المحطات التاريخية المشابهة، والتي تشكّل منعطفاً حاداً، لا بل نقطة تحوّل في المسار السياسي اللبناني. ولا مبالغة أبداً في الاعتبار، أنّها ستؤدي إلى تبدّل المشهد، ليس فقط على المستوى الداخلي اللبناني بل أيضاً على مستوى المنطقة بكاملها.


فقبل الأمين العام لـ«حزب الله» محطات دموية مشابهة جاءت كلها بعد انفجار الحرب في لبنان في العام 1975. واللافت أنّها مع السيد حسن نصرالله ستكون قد أنهت دورتها وتوزعها على الطوائف اللبنانية. صحيح أنّ الإغتيالات طاولت كثيراً من رجال السياسة والأمن والإعلام، لكن المقصود هنا حصراً تلك الأسماء التي حملت مشاريع تجاوزت الحدود اللبنانية لتشكّل أرقاماً صعبة على مستوى الشرق الأوسط، وبحيث يصبح اغتيالها في صميم حسابات المنطقة، ومؤشراً للمنحى الجديد الذي ترسمه «لعبة الأمم» لمستقبل المنطقة.

هكذا افتُتحت سلسلة الاغتيالات من هذا النوع مع الزعيم الدرزي وزعيم الحركة الوطنية كمال جنبلاط، ليليه الزعيم المسيحي بشير الجميل، وبعده الزعيم السنّي رفيق الحريري، وكان آخرهم حسن نصرالله. وكل واحد من هؤلاء كان يحمل مشروعاً لبنانياً، ولكن إلى جانب «وظيفة» لها امتداداتها الإقليمية.

ولهذا يصبح السؤال الأهم: من هي الجهة الفعلية التي تقف خلف كل اغتيال؟ وما هو السبب الحقيقي مِن وراء ذلك؟ صحيح أنّ ضابط الأمن السوري هو من رتّب مسرح إطلاق النار على كمال جنبلاط الحامل مشروعاً مشتركاً مع ياسر عرفات يومها، لكن قرار الاغتيال كانت حدوده أبعد وأهدافه أعمق من تصفية زعيم مشاكس.

وصحيحٌ أنّ حبيب الشرتوني هو من رتّب المتفجرات وضغط على زر التفجير لقتل بشير الجميل، الذي كان قد نجح بالفوز برئاسة الجمهورية قبل أيام معدودة، وأنّ نبيل العلم هو من خطط للعملية، إلّا أنّ الآمر الفعلي بقي متخفياً وراء الستارة، بعدما نجح في إجهاض المشروع الكبير الذي كان سيؤدي الى معادلة إقليمية جديدة.

وصحيحٌ أيضاً أنّ المحكمة الدولية أصدرت إدانتها لمن اعتبرتهم متورطين في اغتيال رفيق الحريري في ذروة قوته ونجاحاته، لكن السؤال بقي مطروحاً حول الجهة الكبرى التي سمحت بإسقاط المشروع الذي حمله الحريري، والذي كان أكبر من لبنان، ليصل إلى ساحات أخرى، والذي كان ليؤسس لمسار إقليمي من نوع مختلف.

ومع حسن نصرالله، صحيحٌ أنّ الطائرات الحربية الإسرائيلية الأحدث في العالم هي من تولّت هدم المباني الستة على رؤوس الجميع لضمان القضاء على نصرالله، وأنّ نتنياهو هو من أعطى الأمر، لكن السؤال يبقى عن الجهة التي أعطت الضوء الأخضر ووفق أي حسابات، وتمهيداً لأي تغييرات تتطلّب تغييب «أبو هادي» عن المشهد.

كلها أسئلة صعبة وتحتمل كثيراً من التحليل، كون المعلومات في حالات كهذه تصبح محرّمة ومن الأسرار التي لا تُكشف أبداً أو على الأقل على أيامنا نحن.

فالقادة اللبنانيون يحظون عادةً بحماية خاصة ومدروسة، لكن في حالة نصرالله فإنّ حمايته كانت في قمة الاحتراف والدقة، وبالتالي فإنّ اختراقها يصبح غاية في الصعوبة حتى ولو على مستوى الدول.

وقد يكون من المبكر لأوانه التوغل في التحليلات والتقديرات الشخصية، لكن في نظرة سريعة على نقاط الضعف الأمنية التي اعترت «حزب الله» طوال الأشهر السابقة يتبين الآتي:

ـ هنالك تطور تقني هائل وما زال عصياً على الفهم أصبح في متناول الجيش الإسرائيلي، والذي صعق به «حزب الله» وجعله يقف حائراً لا بل مشدوهاً في طريقة مواجهته وفك رموزه.

ـ لكن التطور التقني يبقى في حاجة ماسّة الى الخروقات البشرية، وإلّا فهو يصبح بلا فائدة وكمثل السيارة العاجزة عن السير بلا بطارية. وهنا يتركز السؤال حول تلك الخروقات الأمنية التي أنهكت «حزب الله». وفي استنتاجات سريعة، فإنّ منظمة كـ»حزب الله» من المفترض أنّها سرّية وتعمل تحت الأرض، وهو ما يعزز فعاليتها. وهذا ما أدّى إلى نجاح «حزب الله» الباهر في حرب العام 2006، حيث لم تجد الطائرات الإسرائيلية أهدافاً فعلية وحقيقية لقصفها. لكن الدخول إلى سوريا أدّى إلى انكشاف التنظيم العسكري المفترض أن يكون سرّياً لـ«حزب الله». صحيحٌ أنّ قتال «حزب الله» في سوريا كان مهمّاً لا بل «وجودياً» للحزب واستمراره، وأنّه نجح في الفوز بأوراق عدة رابحة وثمينة، لكنه خسر سرّيته وبات مكشوفاً، ما أدّى إلى فتح ثغرات عدة فيه نتيجة اضطراره الى التعاون مع أفراد ومجموعات «غريبة» عن إيديولوجيته وثقافته. وقد يكون هذا ما يفسّر الإغتيالات المتعددة التي طاولت عدداً من كوادره الأساسية، والتي لا بدّ من أن تكون هذه الثغرات قد تمدّدت في هدوء إلى الداخل اللبناني.

ـ والخروقات التقنية والبشرية لا يمكن توظيفها إلّا في حال وجود ترتيب إقليمي جديد للمرحلة المقبلة، وهنا بيت القصيد. فالمشروع القاضي بإعادة ترتيب خريطة النفوذ السياسي في المنطقة يلحظ واقعاً مختلفاً للبنان عمّا هو عليه الآن. والمقصود هنا ليس فقط إزالة خطوط التماس مع إسرائيل عبر الحدود اللبنانية الجنوبية، بل أيضاً ضمان الساحل الشرقي للبحر المتوسط، حيث أنّ للبنان شريطاً طويلاً ومهمّاً يبلغ 220 كلم. والأهم أنّ لهذا الشاطئ ميزات لا تحظى بها شواطئ أخرى قريبة. ولذلك أصبحت الساحة اللبنانية ضيّقة جداً على مشروع نصرالله. وقلة هي من لاحظت أنّ اغتيال إسرائيل لكوادر «حزب الله» خلال الأشهر الأولى للحرب تركّزت على الذين لديهم علاقة خاصة وعملية مع ضباط الحرس الثوري الايراني، وكذلك استهداف الجيل لمؤسس لـ«حزب الله» ولهذا معناه.

في الواقع، فإن بركان غزة أو «طوفان الأقصى»، والذي قيل إنّه كان يهدف إلى نسف المشاريع الكبرى الجاري رسمها والممرات التجارية الهائلة، أدّى إلى عكس ذلك، وبالتالي إلى ترسيخ معادلات أخرى وخريطة سياسية جديدة، مرتكزة على مصالح مستجدة. فهنالك استكمال التطبيع مع إسرائيل والمبني على أدوار تجارية هائلة، أبرزها على الإطلاق طريق الهند إلى أوروبا والذي يتكون من ممرين.

وفي موازاة ذلك، توسيع دائرة النفوذ الإيراني في اتجاه العراق غرباً وفي اتجاه آسيا الوسطى شمالاً. وكان لافتاً جداً هذا الدفء في التواصل الإيراني ـ الأميركي من خلال الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان ومستشاره محمد جواد ظريف، المعروف بأنّه أكثر المتحمسين للعلاقة مع الغرب، واللحاق بركب تطوير الاقتصاد. وقد تزامن ذلك مع إعلان بغداد وواشنطن يوم الجمعة الماضي، عن إنهاء مهّمة التحالف الدولي ضدّ «داعش» في العراق في موعد أقصاه نهاية أيلول 2025. وهو ما معناه أنّ الفراغ الذي سيخلّفه الإنسحاب العسكري الأميركي ستملأه إيران بلا شك. كل ذلك في وقت كانت إسرائيل تنفّذ خطة فكفكة الجسم العسكري لـ«حزب الله» بالطائرات الحربية.

وفي المحصلة، فإنّ اغتيال نصرالله يندرج في الخانة نفسها للزعماء اللبنانيين الذين سبقوه، ليفتح الباب أمام تحوّل كبير سيترسّخ لاحقاً وسيؤدي لترتيبات جديدة في المنطقة. هي لعبة الأمم التي خبرناها أكثر من مرّة، ولو أننا لم نتعظ منها أبداً.

جوني منيّر – الجمهورية

Exit mobile version