تجري الانتخابات الرئاسية الأميركية في 5 تشرين الثاني المقبل. يفصل الشرق الأوسط عن ذلك أقلّ من 5 أسابيع تبدو ناظمة لحسابات إدارة الرئيس جو بايدن، لكنّها لا شكّ تحدّد طبيعة الخيارات التي ستذهب إليها إسرائيل وإيران. وبين إدارة الصراع والذهاب إليه شاملاً مسافة تكاد تكون صفرية قد لا يمكن ضبطها. فكيف يمكن قراءة ثمّ استشراف مسارات المنطقة على جبهاتها المختلفة على إيقاع يتناسب مع احتمالات هويّة ساكن البيت الأبيض للسنوات الأربع المقبلة؟
لا يحبّ رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، بايدن ولا يحبّ نائبته وخليفته المحتملة الديمقراطية كامالا هاريس. لم يبخل الثنائي الأميركي بالتأييد والدعم لإسرائيل ولحربها في غزّة منذ عام تحت عنوان “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. ووفق هذا العنوان برّرت واشنطن عملية اغتيال زعيم الحزب حسن نصرالله واعتبارها “تحقّق العدالة لضحاياه”، ولا يبدو أنّها رادعة لحرب تبدو عبثية الأهداف ضدّ لبنان. ومع ذلك يميل نتنياهو إلى المنافس الجمهوري دونالد ترامب، ومستعدّ للمساهمة في تعبيد طريقه نحو الرئاسة، وهو أمر لاحظه السيناتور الديمقراطي كريس مورفي ولم يستبعده مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون.
ما فعله ترامب
منح الرئيس ترامب في ولايته السابقة إسرائيل اعترافاً بالقدس عاصمة وبالجولان جزءاً من أراضي البلاد. أطلق الرجل صهره ومستشاره جاريد كوشنر يعبث في خرائط فلسطين ويحيلها مربّعات أمنيّة في خدمة إسرائيل، وجرؤ على تقديم الأمر بصفته “صفقة قرن”. لكن فوق ذلك، استجاب ترامب، الذي هبط على السياسة من عالم العقارات ولم يُعرف عنه أنّ له باعاً في علوم الاستراتيجية، لهمس نتنياهو وأعلن في عام 2018 قرار سحب بلاده من اتفاق فيينا بشأن البرنامج النووي الإيراني الذي عُقد عام 2015.
خبرت إيران ترامب منذ ذلك القرار. تلقّت من إدارته صفعة “عقوبات تاريخية”، وانتظرت بصبر مغادرته منصبه، وعوّلت كثيراً على خصال خليفته بايدن. وعلى الرغم من أنّ الرئيس الحالي لم يفِ بوعده بالعودة للاتفاق بمرسوم كما غادر سلفه الاتفاق بمرسوم، وعلى الرغم من تعثّر جولات من المفاوضات للاهتداء إلى تسوية ترمّم الاتفاق وتعيد إنعاشه، إلا أنّ طهران بقيت تميل لإدارة ديمقراطية ما زالت متأثّرة بأوباميّة “حنونة”، وتسعى لإبعاد “كابوس” عودة ترامب إلى البيت الأبيض.
الأسابيع الخطرة
وفق حسابات دقيقة إسرائيلية إيرانية ذات أغراض متناقضة سيعيش الشرق الأوسط، لا سيما في ميادين فلسطين (الضفة والقطاع) ولبنان وربّما “ساحات” أخرى، أسابيعها المقبلة. واشنطن لا تريد حرباً شاملة لدواعٍ على علاقة بمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية، ولدواعي الحملة الانتخابية للمرشّحة هاريس. وطهران التي اضطرّت حرجاً إلى إظهار مخالبها وتنفيذ ردّ صاروخي ضدّ إسرائيل، ما فتئت تردّد عدم رغبتها بالحرب الكبرى وتعوّل على “حكمة” الأميركيين لضبط الردّ الإسرائيلي المضادّ الذي وعد نتنياهو بأن يكون مكلفاً تدفع فيه إيران “ثمن خطئها”.
واضح أنّ ما بين طهران وواشنطن تخاطباً واتصالاً لم ينقطعا عبر مسقط تارة وعبر ممثلية إيران في الأمم المتحدة في نيويورك تارة أخرى. وواضح أيضاً أنّ بين العاصمتين مصلحة مشتركة في عدم عودة ترامب إلى قيادة الولايات المتحدة. لكنّ الواضح أيضاً أنّ نتنياهو ممسك بخيط ابتزاز عالي المستوى يقيس به مستوى الردّ “الحتمي” على إيران. يريد نتنياهو ردّاً يكون نوعياً موجعاً مختلفاً عن ذلك الذي ردّ به على هجمات 13 نيسان الماضي الإيرانية (انتقاماً لقصف القنصلية في دمشق). لكنّه أيضاً يريد ردّاً لا يستفزّ إدارة بايدن ويضمن استمرار تدفّق الأسلحة الاستراتيجية لأيّ صدام كبير محتمل مع إيران، وأن يقدّم في الوقت عينه هدايا انتخابية لحليفه الجمهوري الحميم.
المبادرة بيد نتنياهو وليس المرشد
الأرجح أنّ المبادرة في يد نتنياهو وليس في يد المرشد، علي خامنئي، والرئيس مسعود بزشكيان. وفيما يجنح الأوّل إلى أقصى درجات ما تسمح به مناورات حافة الهاوية من استهداف لقطاعات استراتيجية في إيران، فإنّ طهران تبدو جاهزة لاستيعاب أيّ ردّ إسرائيلي مهما كبر حجمه، معوّلة بيأس على محرّم أعلنه بايدن في معارضة استهداف أيّ منشأة من منشآت البرنامج النووي. والواضح أنّ إيران التي عاندت بدأب ومنذ سنوات سعي نتنياهو لاستدراج إيران إلى نزال يستدرج كلّ الغرب معه، لن تسقط خلال الأسابيع الفاصلة عن الاقتراع الأميركي في فخّ مهما تكثّفت داخله مستويات الاستفزاز.
لم تعد إيران تملك ترف الرقص على حافة الهاوية الذي جعلته حرفتها منذ قيام الجمهورية الإسلامية منذ أكثر من 4 عقود. تبدو إسرائيل متمتّعة بلحظة تاريخية استراتيجية تبيح لها إحراق أوراق إيران في المنطقة أو شلّ صلاحيتها. يملك نتنياهو هامشاً رحباً للتلاعب باستقرار كلّ المنطقة والتأثير على مسار الانتخابات الأميركية. وهو في هذا السياق يتمتّع بلعب أدوار قذرة في الابتزاز والمقايضة والمساومة خلال الأسابيع الخمس المقبلة.
لكنّ نتنياهو ليس وحده في المنطقة. وهو إذ يستفيد من “تفهّم” الشرق والغرب إثر واقعة “طوفان الأقصى”، فإنّ الحرب الكبرى تمهّد أيضاً لإعادة رسم الشرق الأوسط على نحو لن يقبل أصحاب المصالح في الدائرة الجيوستراتيجية الإقليمية (العرب وتركيا وباكستان.. إلخ) والدائرة الدولية (الغرب وروسيا والصين والهند.. إلخ) العبث بتوازنات حسّاسة سيصعب ترتيب مآلاتها في ظلّ نظام دولي عاجز عن معالجة أيّ صراع في عالم اليوم.
مع ذلك، على الرغم من تحذيرات جدّية من الصدام الكبير المباشر بين إسرائيل وإيران، وعلى الرغم من أنّ الفرصة تبدو سانحة لنتنياهو لتحقيق حلمه في جرّ العالم إلى حرب تقضي على قنبلة إيران النووية لعقود، فإنّ الطرفين يكتشفان محاذير صدام تاريخي وجودي موعود لطالما نفخا به وتوعّدا بحتميّته. ولئن يبدو الدعم الغربي لإسرائيل مشروطاً، لا سيما من قبل نادي دول الـ 5+1، لضبط شطط أيّ تماسٍّ عسكري مع إيران، فإنّ دولاً كبرى، مثل الصين وروسيا، لا تبدو، هذه المرّة، مستفيدة من إشغال واشنطن ومعسكرها الغربي في حروب الشرق الأوسط، ولا تبدو محرّضة لإيران للمضيّ قدماً في تحدّيها ومكابرتها. تعبّر تلك الدول في حساباتها عن أعراض نأي بالنفس عن أيّ انخراط لحليفها الإيراني في حرب لطالما ردّدت طهران ومرشدها أنّها لم تكن وراء “طوفانها” منذ عام