للأسبوع الثاني على التوالي، واظبت سندات اليوربوندز اللبنانيّة –أي سندات الدين السيادي بالعملات الأجنبيّة- على تسجيل قفزات سريعة وغريبة في أسعارها، في الأسواق العالميّة. وبحلول يوم أمس الجمعة، كان سعر هذه السندات قد ارتفع إلى حدود الـ 9 سنت للدولار، أي 9% من قيمة السند الإسميّة التي كان يُفترض سدادها عند الاستحقاق. بهذا الشكل، بات من الممكن القول أنّ سعر السندات قد ارتفع بنسبة مذهلة، قاربت الـ 53%، مقارنة بسعرها قبل أربعة أسابيع، أي قبيل توسّع الحرب بالشكل الذي نراه اليوم. في تلك المرحلة، لم يكن سعر السندات قد تجاوز الـ 5.875 سنت للدولار، فيما تذبذب سعرها قرب متوسّط 6.5 سنت للدولار طوال العام الراهن.
لم يعد الأمر سرًا الآن. في أسواق المال الدوليّة، وتحديدًا في صفوف المستثمرين وحملة السندات الأجانب، من يعوّل على خلاصات هذه الحرب ونتائجها. وقد تبدو الجملة التالية مُستفزّة جدًا لنا كمقيمين في لبنان، لكنها حقيقة باتت واضحة: ثمّة من يملك مصالح ماليّة تدفعه للتفاؤل بما يجري الآن، وإلى حدّ المراهنة بالأموال وشراء السندات، التي توقّفت الدولة عن سدادها منذ العام 2020. الحرب هي ما أنعش سوق سندات اليوروبندز اللبنانيّة، والطلب عليها، ومن الصعب جدًا تخايل أي تفسير آخر لارتفاع الأسعار الذي يجري. علام يراهن هؤلاء إذًا؟
في أولى الأيّام التي شهدت ارتفاع أسعار السندات، طُرحت نظريّات عدّة لتفسير ما يجري في السوق، ومنها تلك التي لم تجد أنّ هذا التطوّر يستحق ربطه بالأحداث العسكريّة الجارية. لكن مع استمرار ارتفاع الأسعار لغاية أواخر هذا الأسبوع، وبعد اتضاح هويّة الجهات التي تقوم بشراء السندات، بدأت تقارير المؤسّسات الماليّة تلحظ العلاقة الواضحة ما بين التصعيد العسكري الجاري وحركة الأسواق. بصورة أوضح، كانت ثمّة ما يشير إلى أنّ الأسواق تترقّب تسويات سياسيّة معيّنة بعد الحرب، وأن هذه التسويات سيكون لها أثر إيجابي على مستقبل سندات اليوبوندز. وحين نتحدّث عن مصير السندات، فنحن نشير حتمًا إلى مسار إعادة هيكلة الدين العام، المربوط بدوره بالتفاهم مع صندوق النقد الدولي.
المصادر المتابعة لحركة السندات في الأسواق العالميّة تشير إلى أنّ مصرف “غولدمان ساكس” كان أبرز الجهات التي أقبلت طوال الأسبوعين الماضيين على زيادة محظفته من سندات اليوروبوندز اللبنانيّة. وتلك الحركة جاءت بالتوازي مع صدور تقرير لافت في توقيته من مصرف HSBC، حول مآل الأزمة الاقتصاديّة اللبنانيّة، بعنوان “هل جاء أوان التغيير؟”. باختصار، كان ثمّة مناخ يرى أن ما يجري في الميدان العسكري، سينتهي بمعالجات كبرى على مستوى الملفّات الداخليّة العالقة، ومنها مسائل مثل الشغور الرئاسي والأزمة الماليّة.
إحدى المذكّرات الداخليّة التي نشرتها شركة KNG Securities فسّرت ما يجري بعبارات صريحة أكثر. ارتفاع أسعار السندات جاء بفعل اعتقاد المستثمرين بأن “الهجمات الإسرائيليّة ستُضعف حزب الله”، الذي يُنظر إليه في السوق على أنّه أحد المعارضين الرئيسيين للإصلاحات “المؤيّدة للسوق”، وبوصفه “عقبة رئيسيّة أمام إعادة هيكلة ديون لبنان. ما لم تقله الشركة هنا، هو أنّ هذا الاعتقاد الشائع في الأسواق الدوليّة، يمكن ربطه بفكرة بسيطة: التفاهم مع صندوق النقد الدولي، ومن خلفه المجتمع الدولي، قد يكون أسهل في حال إعادة ترتيب الملفّات الداخليّة، على أساس نفوذ أكثر محدوديّة لحزب الله.
في مكان آخر، يشير تقرير داخلي لشركة Tellimer إلى أنّ إضعاف حزب الله قد يفضي إلى بروز “بدائل أكثر تأييدًا لسياسات السوق داخل الحكومة اللبنانيّة”، بعد إعادة “رسم الخريطة السياسيّة الحزبيّة في لبنان”. ومن هنا، تفسّر الشركة ارتفاع أسعار السندات بالتوازي مع الضربات القاسية التي تلقاها الحزب خلال الأسابيع الماضية.
مصرف Danske Bank، الذي بادر بدوره إلى شراء السندات خلال الأسبوعين الماضيين، لم يناور كثيرًا عن تبرير قراره. “هجوم إسرائيل على حزب الله سيمثّل نقطة تحوّل”، كما أعلن مدير محفظة المصرف سورين مورتش، وانخفاض أسعار السندات بات عاملًا يُغري أي طرف لشرائها للرهان على إمكانيّة ارتفاع أسعارها في المستقبل. مع الإشارة إلى أنّ هذا المصرف كان قد أقفل حسابات مصرف لبنان لديه بالكرون السويدي خلال العام 2021، وهو ما ترك المصرف من دون أي مراسل خارجي بهذه العملة. وفي تلك المرحلة، جاء هذا القرار على خلفية ارتفاع مخاطر التعامل مع لبنان في أوجّ أزمته الماليّة.
من الواضح أنّ مجريات الميدان العسكري أعادت –خلال الأسبوعين الماضيين- تحريك بعض الملفّات السياسيّة، وفي طليعتها ملف انتخابات رئيس الجمهوريّة، والتي يفترض أن تعبّر بشكلٍ ما عن توازنات القوّة الحاليّة في المشهد السياسي. كما بدأ الحديث همسًا وصراحةً حول الترتيبات الأمنيّة التي يمكن أن يذهب إليها لبنان، في “اليوم التالي” للحرب، والتي ستعيد إنتاج اللعبة السياسيّة بشكل مختلف. وإذا كان الوقت مبكرًا لمعرفة مآلات ونتائج الحرب، قد يصحّ القول أنّ ما يجري سيحرّك المياه الراكدة داخليًا بالفعل، وإن لم يتضح بعد اتجاه الأمور.
لكنّ في الوقت نفسه، ثمّة تسرّع لا يمكن تجاهله في اعتبار أن تطوّرات الميدان ستصب في صالح المستثمرين أو حملة السندات بشكل حتمي، كما أشار بعض المحلّلين. فعرقلة الحلول الماليّة والشروط التي طلبها صندوق النقد، لم تتم على يد حزب الله وحده، بل كان ثمّة إجماع داخلي –منذ رحيل حكومة حسّان دياب- على تجاهل هذه الخطوات. وهذا يرتبط بطبيعة المصالح المحليّة التي تتعارض مع هذه الإصلاحات. بهذا المعنى، ولهذا السبب بالتحديد، لا يمكن توقّع حلحلة الملفّات الماليّة المعلّقة، بمجرّد حصول تراجع ما في قوّة حزب الله ضمن المعادلة السياسيّة الداخليّة.
وفي جميع الحالات، من المبكر أيضًا افتراض أنّ نفوذ الحزب ضمن المعادلة الداخليّة سيتراجع بشكل حتمي، وبصورة كبيرة، طالما أنّ صورة التسويات السياسيّة النهائيّة –لمرحلة ما بعد الحرب- لم تظهر بعد. بل إنّ النتيجة النهائيّة للحرب نفسها، لم تتضح حتّى هذه اللحظة، وإن كان من المسلّم به أنّ الحزب تلقّى فعلًا ضربات أمنيّة وعسكريّة لها ثقلها خلال الأسبوعين الماضيين. هكذا، يمكن الاستنتاج أنّ ما يجري في أسواق اليوربوندز حتّى اللحظة مازال في إطار المراهنات، على عمليّة إعادة خلط الأوراق المتوقّعة، من دون معرفة نتائج هذه العمليّة.
علي نور الدين- المدن