لم يكن هناك من إرادة دولية لإنهاء الحرب اللبنانية لو لم يعلن العماد ميشال عون «حرب التحرير»، ولم يكن هناك من إرادة دولية لفك ارتباط لبنان بإيران لو لم يعلن يحيى السنوار «حرب الطوفان» ويدعمه السيد حسن نصرالله بـ»حرب 8 تشرين».
القاعدة الأساسية التي تحكم عمل المجتمع الدولي تقوم على إدارة الأزمات واحتوائها وليس معالجتها من جذورها، والسبب في ذلك مردّه إلى العجز من جهة، والأزمات التي تعصف بعشرات الدول من جهة أخرى، والاتكاء على عامل الوقت الكفيل بإنضاج الحلول والتسويات من جهة ثالثة، والتعقيدات التي ترتبط بكل أزمة والمتصلة بمصالح الدول الخارجية وتدخّلاتها من جهة رابعة، وهذا ما يفسِّر المراوحة في الأزمات إلى حين يتوسّع مداها وسلبياتها وارتداداتها، فيضطرّ إلى التدخُّل لحلها.
فالقاعدة إذاً أنّه طالما هذه الأزمات محصورة ضمن نطاق دولها يتمّ العمل على احتوائها ومعالجتها على نار هادئة بالرهان على عاملي الوقت والظروف، لكن في حال تمدّدها وتوسّعها يسارع إلى إيجاد الحلول لها تجنّباً لانعكاساتها وارتداداتها، بالتالي لولا حربَي 7 و 8 تشرين لاستمرّت الحياة طبيعية في غزة ولبنان، واسترخاء الجيش الإسرائيلي أثناء عملية «طوفان الأقصى» سببه الرئيسي الاطمئنان لـ»حماس»، والعلاقة بين إسرائيل و»حزب الله» كانت على أفضل ما يرام: حدود هادئة، وترسيم بحري، ومفاوضات لإنهاء النقاط الخلافية.
قبل 8 تشرين لم يكن حتى القرار 1701 مطروحاً ومطلوباً تنفيذه من قِبل إسرائيل نفسها، والتي كانت على دراية تامة ودقيقة بأنّ «حزب الله» يخزِّن السلاح ويحفر الأنفاق، وقد دلّت الحرب إلى أنّ تحرّكاته كلها كانت مراقبة ومكشوفة، لكنّها لم تكن في وارد شنّ الحرب ضدّه بسبب التطبيع القائم بينهما ووصولها إلى اقتناع بأنّ «الحزب» اتعظ من حرب تموز 2006 التي ستكون الحرب الأخيرة.
ففي مرحلة ما قبل 8 تشرين، إذاً لم يكن القرار 1701 على الأجندة المثلثة الأميركية والإسرائيلية و»حزب الله»، وكان يشكّل فقط مطلباً للبنانيِّين الذين يريدون دولة فعلية ويصطدمون بحقيقة أنّ دستورهم والقرارات الدولية تحوّلوا إلى حبر على ورق، وهذا يُثبت بأنّه عندما يكون لأيّ أزمة أبعادها الخارجية يستحيل حلّها قبل تقاطع ظروف داخلية وخارجية.
وعندما أعلن «حزب الله» حرب الإسناد لحركة «حماس» في اليوم التالي لعملية الطوفان، أُعيد وضع الـ1701 على الطاولة مجدّداً، وكثفّت واشنطن زياراتها ولقاءاتها واتصالاتها في محاولة لتطبيق هذا القرار جزئياً من خلال ابتعاد الحزب مسافة 10 كلم عن الحدود، فيما النص واضح لناحية خلو جنوب الليطاني من أي سلاح خارج عن سلاح الشرعية، وهذا عدا عن ضبط الحدود والسلاح الواحد ومنع إدخال السلاح للميليشيات، بالتالي حتى بعد اندلاع الحرب لم يكن هناك من نية لتطبيق القرار فعلياً، وكانت المساعي لتطبيقه بشكل استنسابي وجزئي لوقف الحرب بين إسرائيل والحزب، وتل أبيب كانت موافقة على ذلك، والرفض جاء من الحزب الذي أصرّ على ربط موقفه بموقف «حماس».
وعندما اصطدمت المساعي الأميركية برفض «حزب الله» القاطع وقف إطلاق النار قبل وقفه في غزة، تدحرجت الحرب وتوسعت وانتقلت الأولوية معها من القرار 1701 إلى القرار 1559، والسبب في ذلك مثلّث:
ـ السبب الأول، اعتبرت إسرائيل أنّه إذا كان «حزب الله» قد اضطرّ إلى مجاراة «حماس» بحرب إسناد حفاظاً على سرديته وتماسك محوره وصفوفه، فإنّه كان باستطاعته الخروج من هذا المستنقع عندما توافرت ظروفه مع تراجع حدّة العمليات العسكرية في غزة، ولا يستطيع الحزب أن يزايد أساساً على إيران التي تعاملت بالقطعة مع حرب الطوفان وليس بحرب مستمرة ومتواصلة، وكان باستطاعته أن يحذو حذوها، لكن أما وأنّه واصل قتاله من دون أن يبحث عن مخرج، فهذا يعني استحالة عودة العلاقة معه إلى ما كانت عليه قبل 8 تشرين.
والمقصود أنّ إسرائيل التي طبّعت العلاقة مع الحزب وتعاملت مع السيد نصرالله بكونه وريث الرئيس حافظ الأسد الذي حافظ على الهدوء التام في الجولان، رأت بعد 8 تشرين أنّ نظرتها كانت خاطئة، وأنّ رهانها لم يكن في محله، وأنّ التطبيع مع أذرع إيران مستحيل، وأنّ تقييمها للحركة والحزب كان خاطئاً، وهذا ما جعلها تعتبر أنّ ما قامت به «حماس» في 7 تشرين يمكن أن يقوم به الحزب في أي وقت.
لذلك، وبما أنّه ليس من مصلحتها الانجرار إلى حرب كل عشر سنوات، قرّرت إزالة الخطر الذي يمثِّله الحزب على الحدود ومن خلال صواريخه، وهذا ما جعلها تنتقل عملياً من الدفع في اتجاه تطبيق القرار 1701 إلى تنفيذ القرار 1559، وهو مصلحة لبنانية قبل أن يكون إسرائيلية أو أميركية، من مبدأ استحالة قيام دولة فعلية في ظل سلاح خارجها، وهذا ما أثبتته الوقائع منذ 34 سنة حتى اليوم.
ـ السبب الثاني، دلّت حرب الطوفان الى أنّ الولايات المتحدة هي الدولة الأكثر براغماتية في العالم، فسلّمت لبنان لحافظ الأسد لترييح رأسها من مشاكله، وتغاضت عن سلاح «حزب الله» ودوره على الرغم من تصنيفها له بالإرهابي، وشجعّت إسرائيل والحزب على التطبيع والتفاهم والترسيم، لكن عندما لمست أنّ تل أبيب لم يَعُد باستطاعتها التعايش مع الحزب الذي يُشكّل تهديداً وجودياً لوجودها، وفّرت الغطاء الديبلوماسي لعمليات الجيش الإسرائيلي العسكرية، واعتبرتها فرصة للتخلُّص من هذه المنظمة من دون أن تتكبّد أي خسائر طالما أنّ إسرائيل ستتولاها.
فبراعة حافظ الأسد أنّه ليس فقط لم يمنح واشنطن وتل أبيب الورقة التي تساهم في سقوطه، لا بل كان يوهمهما بقدرته على استخدام أوراق تصُبّ في مصلحتهما، وحوّل نفسه إلى حاجة أميركية وإسرائيلية، وقد مات من دون أن يوقِّع السلام، ولا بل وفّر الأرضية لنسف مساعي السلام ومساراته، وهذا ما حاولت إيران أن تلعبه مع «حماس» و«حزب الله» قبل أن تسقط في هاوية الطوفان.
السبب الثالث، لبناني سيادي بامتياز من زاوية أنّه لو طبِّق اتفاق الطائف بتسليم «حزب الله» سلاحه كسائر الميليشيات لما صدر القرار 1559 ولا القرار 1701، ومحاولة تصوير القرار 1559 بأنّه مؤامرة دولية وإسرائيلية ضدّ «الحزب» هو تزوير وتضليل، لأنّ هذا القرار منبثق عن الدستور الذي تمّ الانقلاب عليه بإبقاء سلاح غير شرعي في ظل تقاسم النفوذ السوري والإيراني على لبنان.
وعلى الرغم من أنّ القرار 1701 ينصّ على القرارَين 1559 و1680، إلّا أنّ المشكلة الأساسية تكمن في سلاح «حزب الله» الذي لو كان سُلِّم للدولة لما حصلت حرب تموز 2006 التي استدعت صدور القرار 1701، ولما كانت حصلت حرب 8 تشرين 2023، بالتالي لم يَعُد مطلوباً البحث عن هدنة بين إسرائيل و»حزب الله» لا بدّ من أن تسقط بعد سنوات، وإبان هذه الهدنة يعيش لبنان في فوضى ما بعدها فوضى بسبب سلاح «الحزب». ولذلك، حان الوقت لتطبيق القرار 1559 بتسليم الحزب سلاحه إلى الدولة، لأنّه ما لم يسلِّمه يعني إبقاء لبنان منصة لإيران ومساحة مضطربة وغير مستقرة.
والمواطن اللبناني آخر همّه الوصول إلى هدنة بين إسرائيل و«حزب الله» تُبقي لبنان في حرب باردة بانتظار الظروف التي تحوّلها إلى ساخنة، فيما هذا المواطن يريد أن تستعيد دولته دورها السيادي الحقيقي، الأمر المستحيل ما لم يُسلِّم الحزب سلاحه، وتسليم هذا السلاح يشكّل الفرصة الفعلية لتطبيق الدستور والعودة إلى اتفاقية الهدنة وطَي للمرّة الأولى صفحة 13 نيسان 1975.
يقف لبنان اليوم أمام فرصة تاريخية يمكن أن يطوي معها فصول الحروب الساخنة والباردة التي أبقت لبنان ساحة فوضى، وأن تفتح هذه الفرصة صفحة جديدة للبنان المستقبل، والتي لا يمكن ولوجها وفتحها من دون تطبيق القرار 1559 بشقه الإيراني، إذ بعد أن نُفِّذ في العام 2005 بشقه السوري، حالت ظروف داخلية وخارجية دون تنفيذه بشقيه السوري والإيراني معاً من خلال تسليم «حزب الله» سلاحه، خصوصاً أنّ الخروج السوري أبقى لبنان ساحة وبالوضعية السابقة نفسها بسبب السلاح الإيراني، فإنّ عملية «حماس» التي ساندها «حزب الله» وتقف خلفهما إيران جعلت إسرائيل، ومن خلفها أميركا، تتخِّذ قرار إنهاء دور «أذرع الطوق الإيرانية العسكرية» التي تهدِّد تل أبيب في غزة وبيروت ودمشق، وهذا ما جعل واشنطن تعدِّل في توجّهها الاستراتيجي من سياسة غضّ النظر عن الدور الإيراني التوسعي على إثر أحداث 11 أيلول 2001، إلى سياسة إنهاء الدور الإيراني الذي يُشكّل خطراً وجودياً على إسرائيل على إثر أحداث 7 تشرين الأول 2023، والمستفيد من ذلك كله لبنان، كون فك ارتباطه بإيران يُعيد له السيادة التي يستعيد معها فعالية دور الدولة.
شارل جبور – الجمهورية