ضربةُ المقاومة الأخيرة على قاعدة “غولاني” (التي تبعد أربعة كلم فقط عن بيت نتنياهو) عبْرَ طائرة انقضاضية موجّهة بدقة قذفَت صاروخاً ثم انفجرَت في مطعم الجنود وأدت إلى ثمانين إصابة بين قتيل (٣٥) والباقي جرحى، دفعَت محلّلين كباراً في تلفزيون إسرائيلي إلى التساؤل: “هل سينام نتنياهو بعد اليوم في بيته مطمئناً”؟
في المسار السياسي مع لبنان هناك كلام عن “هدنة”، يبدو أنّ لها هدفاً وحيداً هو تحييد جبهة لبنان وصواريخها البالستية التي ظهرت في الأسبوعين الأخيرين، خلال الفترة التي تنوي فيها “إسرائيل” الردّ على الضربة الأيرانية السابقة. نتنياهو الذي يتهيّب ردّ إيران المزمَع على الردّ الإسرائيلي قد يريد أن يهدّىء جبهة لبنان، فلا يكون هناك اشتراك لصواريخ المقاومة إلى جانب ما يتوقّعه من صواريخ إيران. ولم يُعرف ما إذا كان لبنان الرسمي موافقاً على تلك “الهدنة” أم لا يزال عند موقفه بوقف إطلاق النار.
في الحرب على غزّة قَبِل نتنياهو هدنة لأيام قليلة بعد فترة من القتال اكتشف فيها حجم مقاومة “حماس”، فحرّر بعض الرهائن لإسكات الأصوات الداخلية، ورتّب صفوف جيشه الوحشيّ وعاد إلى الميدان بزحف الدبابات وعربدة الطيران الحربي. وحين كان المراقبون في أغلب الصحافة العربية والعالمية يراهنون على أن الهدنة ستليها هدنة ثانية تمهيداً لوقف النار، فاجأ نتنياهو العالم بهجوم هو الأكبر والأقسى على غزة معتمداً على المجازر البشرية الشنيعة التي حرّكت بعض الدول الحرة في المجتمع الدولي فصدرَت صرخات منها لمحاكمة نتنياهو بتهمة الإبادة، وفي الأمم المتحدة وأيضاً في محكمة العدل الدولية، لكنْ كان نتنياهو متأكداً من أن الصهيونية العالمية قادرة على دفن تلك المحاكمات وهي حية. وأكمل سيرته الجهنمية مستنداً إلى دعم أميركي مطلَق تمويلاً وسلاحاً، وما زال!
اليوم تتحرك فكرة “الهدنة” على جبهة لبنان، وتطل برأسها. صحيح أن لبنان في حاجة إليها ليلتقط أنفاسَه، وليتابع المجريات السياسية التي تدور في كواليس السياسة العالمية، لكنّ نتنياهو الذي “وصلته” وثائق نتائج الضربة الإيرانية السابقة كاملة، وبينها ما يقول إن “ليلة الصواريخ الإيرانية كلفت أكثر من كل ما نزل من صواريخ على إسرائيل في أيام الحرب الأخيرة”، نتنياهو هذا يدرك معنى أن تصاب ” بلاده” بضربة ثانية أصعب وأخطر وأشمل. لذلك يراوغ ويناور ويتحدّى ويستعدّ ويكتفي بذلك، حتى الآن.
لم يروِ نتنياهو بعد، غليله وحنَقَه وغضبَه ويأسَه من لبنان. القصف الأعمى على مدن الشيعة، وأحيانا غير الشيعة، يشير أن لا بريء عنده ولا مدنيّ. كل من يقيم في لبنان في مناطق الشيعة أو قريباً من مناطقهم مغضوب عليه غضباً يهوديا مشهوداً. وكل من استقبل النازحين من الجنوب متّهم “بخيانة” إسرائيل التي تستثنيه من الضربات وتالياً عليه أن يتراجع عن ذلك، وإلّا فليتحمّل الضريبة! هذه هي القواعد اليهودية والصهيونية العالمية التي تطبّقها وتعمل بها بعض القوى السياسية في لبنان “مشكورة” بالنسبة إليه، ذلك أن خطابها هو الخطاب الإسرائيلي الحَرفي. وأشدّ ما يثلج صدره التصاريح الفينيقية اللبنانية التي تدلّ على خرَف مرَكّب بين تخاريص ماضٍ مفضوح بالعمالة وتخاريف مبكّرة راهنية عند أصحابها الذين يدْعون المقاومة إلى “إعلان الاستسلام”، بما يتجاوز بكثير أحلام بني إسرائيل أنفسِهم، وهنا بالضبط الانفصام في الشخصية التي تعرف أن “الأرض” غير ذلك تماماً لكنها تتجاوز “الأرض” المقدّسة، ناظرةً إلى سماء الأماني علّها تساعدهم. ولا يصدق هؤلاء أن هذا الانكشاف المأسوي خطرٌ محدق ببنية لبنان الشعبية والاجتماعية، بل يعتبرون الأمر اختلافاً في وجهات النظر، ويثابرون على الغرق أكثر فأكثر.
ومع أن أي مراقب أو محلل أو عسكري صهيوني من الكبار والصغار أو أي هاوٍ أو أي محترِف لم يخطر في باله المطالبة بـ “استسلام حزب الله” خشية أن يضحك منه جميع من يسمع ويعلم، فإن الفينيقيين اللبنانيين منذ إطلاق أول رصاصة تدميرية على لبنان أرهصوا بذلك، ونفثوا سمومهم بهذا “الرجاء”. والبعض قال باسم إسرائيل كمَلكي أكثر من الملك (متجاوزاً “عمامة” السيد محمد علي الحسيني وهو للمناسبة لبناني) وغير مكترث لمن يضحك منه، أو يسخر، أو يتنمّر أو ينَكِّت على مستوى تفكيره، و ينسبُه في النهاية إلى أبالسة اليهود المُعَرّين من أي أخلاق وإنسانية ويصنفه من البيئة الحاضنة لاحتلال إسرائيل لبنان. “صحتين”!
وهناك “صحتين” أخرى يتعيّن على جميع اللبنانيين الآخَرين، وهُم الأكثرية، أن يعرفوها هي أن “الحرب” بين القادة الموارنة ما تزال مسيطرة وتسدّ الآفاق أمام الذين يلتقون على العداء للمقاومة لكنهم يختلفون على كل شيء، على كل خطوة، على كل تفصيل، على كل حركة. وهذا التباعد المُتخَم بالأنانيات يمنعهم من توحيد الجهود نحو ما يستفزون به أبناء وطنهم من توجّهات تقسيمية كانوا يجاهرون بها عند كل أزمة أو محنة أو قتال مع “إسرائيل” أو مع سوريا، وبعضهم هدد بالتقسيم نصرةً لداعش عندما ذهب حزب الله لقتالهم في سوريا وعلى الحدود الشرقية التي دنسوها بدم العسكريين وأبرياء البلدات المسيحية والشيعية البقاعية.
الفينيقيون اللبنانيون هم أيضاً لا يريدون “هدنة” لا لأن نتنياهو سيتفرّغ لرده على إيران والرد الإيراني عليه من دون أن يكون على كتفِه صواريخ إضافية للمقاومة، بل لأنهم يريدون أن “يُهزمَ” حزب الله، وإذا تعذرَ ذلك أن “تُهزَم” بيئة المقاومة التي ما برح جمهورها يردد بأعلى صوته “فِدى أقدام المقاومين كل خراب بيوتنا وأرزاقنا” وفي خلفية تفكيرهم يدركون تماماً أن هناك تعويضاً حَرْفياً وحِرَفياً سيحلّ عليهم، تماماً كما حصل في حرب تموز وعادت الضاحية والجنوب والبقاع “أجمل مما كانت”.
ومن الطرائف المتَناقَلة عبر مواقع التواصل الاجتماعي أن الشيعة باتوا مَلولين ومتضجّرين من بيوتهم لذلك يغيرونها ويغيّرون ديكورها بين مرحلة وأخرى ! ويتحدّثون عن “خُمس السّادة – أهل البيت” المالي الذي يستقبله الإمام الخامنئي وسيكون في خدمتهم بالأرقام الفلكية ! فضلاً عن ردود أفعال أولية ارتفعت فيها المعنويات لدى بيئة المقاومة على ضربة “غولاني” الاستثنائية وفيها مواصلةُ العزفِ على عدم استشهاد السيد حسن نصرالله.
أما الشهداء من أبطال القتال الضاري، ومن المدنيين فلَهم تنحني الجباه. فبيئة المقاومة في كل مكان لبناني، خصوصاً الجنوب، تعرف أنها “جارة” “إسرائيل”، أي جارة عفريتِ شعوبِ العالم المكروه في كل الأرض، تاريخياً، والمُسيطِر على سياسة العالم راهناً، ما يعني أنك إما ستقعد تحت قدميه ليرضى، ولن يرضى، وإمّا ستقاومه ليبتعد عنك وعن أرضك وأرض أجدادك، لتبقى لك مساحةُ حريّةٍ وطنية وكرامةٍ إنسانية كاملة، ومِتران لِقَبر!