وُضِعت منظومة الحزب الماليّة على الطاولة. ضربت إسرائيل فروع مؤسّسة القرض الحسن بالمباشر ليكون مصير المنظومة كمصير السلاح: رهناً بمعادلات الحرب والتفاوض.
تمثّل جمعية “القرض الحسن” الجزء المحلّي الظاهر من منظومة مالية معقّدة في الظلّ، تمتدّ من طهران إلى أميركا اللاتينية. وبدا واضحاً في هذه الحرب أنّ إسرائيل تضع في أولويّاتها تفكيك هذه المنظومة وإخراجها من الظلّ. وحين يحين وقت الكلام الجدّي، سيُطلب من لبنان ضمّ ما يمكن ضمّه من هذه المنظومة إلى الاقتصاد الرسمي، وتصفية ما لا يمكن تأهيله.
قد لا يكون من قبيل الصدفة البحتة أن تأتي الضربة لـ “القرض الحسن” قبل أيام من القرار المتوقّع من مجموعة العمل المالي (FATF) بإدراج لبنان على القائمة الرمادية للدول غير المتعاونة في “مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب” (AML/CFT). بين الحدثين حبل متّصل من الأحداث يضغط لعدم إبقاء منظومة الحزب المالية والاقتصادية خارج النظام الماليّ الرسمي المتّصل بالنظام المالي الدولي.
تذاكي رياض سلامة…
ليست إشكالية ماليّة الحزب جديدة. غير أنّ حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة تذاكى طويلاً في اللعب على حدّ السكّين للتوفيق بين ما يطلبه الأميركيون ومجموعة العمل المالي، وما لا يمسّ الخطوط الحمر لدى الحزب. وتخلّلت تلك الرحلة محطّات دقيقة، أشهرها مرحلة تشديد العقوبات المالية على الحزب في 2015 و2016. حينها اضطرّت بعض البنوك إلى إغلاق حسابات لمسؤولين في الحزب. فكان الردّ بتفجير مقرّ بنك “بلوم”. وعاد بعدها سلامة إلى ترتيب القواعد مع الحزب، فمنع إغلاق الحسابات إلا بإيعاز من لجنة الرقابة على المصارف، وأعاد للحزب حرّية التحرّك المالي تحت نظره.
طُرِحت إشكالية منظومة الحزب الماليّة للمرّة الأولى فور انتهاء حرب تموز 2006، حين دخلت حقائب تحمل مئات ملايين الدولارات الكاش من إيران البلاد لدفع الإعانات النقدية لمن فقدوا منازلهم وتمويل الحاجات العاجلة الأخرى للحزب. حينها دخلت هذه الأموال بسلاسة إلى النظام المالي من دون أيّة عقبات أو تضييق من البنك المركزي. ثمّ انتعش اقتصاد الظلّ الذي يديره الحزب بالسيطرة على أموال المساعدات العربية التي تلقّتها الدولة اللبنانية، من خلال مشروع “وعد”. إذ كان على كلّ مواطن أن يقدّم ما حصل عليه من النظام المالي الرسمي إلى النظام المالي الموازي ليتولّى الأخير إعادة بناء الضاحية.
انتعاش اقتصاد الحزب الموازي
انتعشت على جوانب ذلك النشاط أنشطة اقتصادية واسعة تشمل السيطرة على استيراد موادّ البناء، سواء عبر المنافذ الرسمية أو خارجها. ثمّ أتت أزمة 2019 لتوسّع دائرة هذا النشاط الاقتصادي بشكل إضافي ليشمل توزيع المحروقات والموادّ الغذائية والاستهلاكية بين إيران ولبنان. وكان من مظاهره “بطاقة السجّاد” الشهيرة.
يقال في بعض الأوساط إنّ الانهيار المالي عام 2019 كان بوجهٍ من الوجوه من نتائج الحصار الدولي على الحزب. وسواء صحّ ذلك أم لم يصحّ فإنّ ما حدث على أرض الواقع هو العكس تماماً. إذ نزحت أموال الحزب ومناصريه إلى منظومته الموازية بالمليارات اعتباراً من عام 2015. وانهار النظام الرسمي فيما أثبت نظام الحزب الموازي فاعليّته وموثوقيّته، فأدّى ما عليه من الودائع، وظلّ وحده يمنح القروض للأفراد والمؤسّسات الصغيرة.
وقد كان هذا أحد الأسباب التي أحدثت فجوات غير مفهومة في البيانات الرسمية التي ترصد ما يدخل إلى النظام المالي وما يخرج منه. وكما أنّ خروج 11 مليار دولار من النظام المالي عام 2020 كان لغزاً يختلط فيه الفساد بوقائع الأزمة، فإنّ زيادة احتياطيات مصرف لبنان بنحو ملياري دولار على مدى 12 شهراً (بين أيلول 2023 وأيلول 2024) هو لغزٌ آخر. ففي فترة كانت البلاد تعيش فيها حرباً لا يمكن لأحد أن يصدّق أنّ هذه الزيادة أتت من فائض حقيقي في ميزان المعاملات مع الخارج. فلا السياحة زادت، ولا التصدير انتعش. وربّما يكون التفسير الأكثر منطقيةً أنّ جزءاً من الأموال المخزّنة خارج النظام المالي الرسمي بحثت عن مسارب للعودة إليه.
اقتصاد الظّلّ.. أكثر من 20%
أيّاً يكن، فإنّ الخارج ينظر إلى اقتصاد الظلّ اللبناني كثقب أسود، يشكّل الحزب الثقل الأكبر فيه. لكنّه بالتأكيد لا يقتصر عليه، بل إنّه اتّسع في نواحٍ كثيرة مع اتّساع استخدام الكاش وانهيار فاعلية المؤسّسات الحكومية المنوط بها التحصيل الضريبي والتنظيم والرقابة. كان اقتصاد الظلّ يقدّر بنحو 20% من الاقتصاد الرسمي قبل أزمة 2019، ولا شكّ أنّ نسبته ارتفعت كثيراً بعد ذلك عندما انهار الاقتصاد الرسمي ونظامه المالي، فوفّر بيئة ملائمة للحزب للتحرّك بهامش أوسع وأكثر أريحيّة.
يمكن الحديث اليوم عن خمسة مظاهر أساسية لمنظومة الحزب المالية والاقتصادية:
“القرض الحسن”، وتوصيفه الدقيق أنّه بنك غير مرخّص، يستقبل الودائع ويمنح القروض، ويقدّم خدمات الحفظ (custody) للذهب والمجوهرات. وما هو متوافر من أرقام يؤكّد أنّه بنك كبير بالمقاييس اللبنانية في مجال “مصرفيّة التجزئة” (retail banking). فبين عامي 2017 و2019 قدّم قروضاً بنحو 1.3 مليار دولار. وفي عام 2019 وحده قدّم “البنك” قروضاً بـ 480 مليون دولار، وقد استمرّ بتقديم القروض وحده دون سائر البنوك بعد الأزمة، وهذا يرجّح أن يكون حجم محفظته الائتمانية قريباً من 1.5 مليار دولار. أمّا الودائع، فلا شكّ أنّها بالمليارات وليس بمئات الملايين.
التمويل التشغيلي المباشر من إيران، بما يشمل رواتب “المتفرّغين” في القطاع العسكري والجهاز الإداري والمؤسّسات المدنية التابعة. وهذا التمويل يأتي من الخارج بأوراق نقدية (بنكنوت)، ثمّ يدخل جزء منه إلى النظام المالي الرسمي عبر الصرّافين والبنوك ومختلف قطاعات الاستهلاك. ولا سبيل للبنك المركزي، مهما أدخل من معايير التحقّق من العميل (KYC) لدى البنوك وشركات الصرافة، أن يوقف هذا الجانب، لأنّ دخول الأموال إلى النظام يكون من خلال عشرات آلاف الأشخاص، وبمبالغ صغيرة لكلّ منهم.
المؤسّسات الصحّية والتعليمية والاجتماعية المرتبطة بالحزب. وفيها آلاف من الموظفين، ومئات الآلاف من المستفيدين.
المؤسّسات الاقتصادية ذات الوضع الرمادي، من حيث إنّها مؤسّسات ظاهرها تجاري بحت، لكنّها قد تكون مرتبطة بالحزب بشكل من الأشكال. ومجال التكهّن هنا أكبر من مجال التحقّق. ويسود في المجتمع كلام كثير عن بقاء هذه الشبكة خارج الاقتصاد الرسمي الذي يغطّيه التكليف الضريبي، وعن وجود مسارات لإدخال البضائع من دون رسوم جمركية.
شبكة التمويل الخارجية الممتدّة من إيران إلى العراق وسوريا و لبنان واليمن وغرب إفريقيا وأميركا اللاتينية. وبعضها يتحرّك بالكاش، وبعضها الآخر يتحرّك بغطاء من شركات ذات نشاط مشروع وغير مشروع.
تفكيك منظومة الحزب الماليّة؟
بدأ العمل لتفكيك هذه المنظومة منذ سنوات طويلة. لكنّه دخل في اليومين الماضيين مستوى جديداً. لا تستهدف الضربة لفروع “القرض الحسن” إحراق الدولارات أو تحطيم المجوهرات المخزّنة في خزائنه، بل القضاء على شبكة التواصل المالي بين قيادة الحزب وأفراده، والقضاء على “القرض الحسن” كفكرة ومؤسّسة تحظى بثقة الجمهور. وهذا ما عبّر عنه مسؤول إسرائيلي لـ”وول ستريت جورنال”.
لذلك الضربة تمثّل في جوهرها إعلان نوايا لهدف أكبر هو إخراج منظومة الحزب المالية – الاقتصادية من الظلّ. وكما أنّ مصير سلاح الحزب الموجود خارج إطار الدولة مطروح للمنازلة بالنار والدبلوماسية، فإنّ المنظومة المالية باتت كذلك. إنّ ما يحدث مع هذه المنظومة أشبه بشقّ ماليّ يضاف صراحة أو ضمناً إلى القرار الدولي 1701. والأمر رهن بما تفضي إليه الحرب.
عبادة اللدن – اساس ميديا