قبل بدء معركة طوفان الأقصى، كان الاقتصاد اللبناني يعيش في وهم اقتصاد الكاش (Kayfabe Economy) حيث ان تَوَافرِ السيولة بالدولار الأميركي في الدورة الاقتصادية وبين أيدي المواطنين، أعطى الانطباع أن الاقتصاد بدأ باستعادة عافيته متخطّيًا بذلك الكارثة التي بدأت مع تعثّر الدولة اللبنانية عن دفع ديونها والمصارف عن سدّ الودائع واستمرّت مع تفجير مرفأ بيروت وأحداث الطيونة وغياب الإصلاحات… وغيرها.
أخفت «نشوة» الكاش الذي تدفق على اللبنانيين منذ العام 2022، خطر العزل المالي الدولي الذي تترجم مؤخّرًا بإدراج لبنان على اللائحة الرمادية. وجلبت هذا التدفّق السلام والطمأنينة للسلطة السياسية التي كان المطلوب منها أن تقوم بكل ما هو مطلوب للخروج من الأزمة، لكن بدل ذلك تركت الأمر عملًا بمبدأ «سيري وعين الله ترعاكِ» بحكم الصراع على السلطة ولم تدرِ هذه السلطة أن الأمور ستنقلب عليها لاحقًا (من باب الاقتصاد) من خلال إدراج لبنان على اللائحة الرمادية ولاحقًا قد ندخل إلى اللائحة السوداء حيث البكاء وصرير الأسنان، إذا استمررنا على المنحى نفسه!
يمكن تلخيص تداعيات إدراج لبنان على اللائحة الرمادية بثلاثة أنواع من التعقيدات: تعقيدات في عمليات الاستيراد، تعقيدات تتناول التحاويل من وإلى لبنان، وتعقيدات تشمل الاستثمارات والتمويل. وهذه التعقيدات ستؤدّي إلى زيادة معاناة الشعب اللبناني وإطالة فترة التعافي من دون أدنى شكّ، وبالتالي هناك ضرورة قصوى للقيام بالإصلاحات والإجراءات اللازمة لاستعادة ثقة المجتمع الدولي والنهوض بالاقتصاد اللبناني على أسس سليمة. ويمكن أيضًا تلخيص الإجراءات الواجب اتخاذها بمجموعة من الإجراءات التشريعية والتنفيذية والإدارية على رأسها: إنتخاب رئيس للجمهورية، تشكيل حكومة أصيلة قادرة على تنفيذ الإصلاحات، إقرار قانون استقلالية القضاء، إعادة هيكلة القطاع المصرفي، مكافحة اقتصاد الكاش ووضع سقف له، مكافحة التهرب الضريبي والتهريب على الحدود، مكافحة الفساد عبر إطلاق يد القضاء… وبهذه الخطوات يستطيع لبنان إعادة هيكلة كيانه الاقتصادي بشكلٍ سليم يحاكي فيه التطورات الداخلية والإقليمية. بالطبع هذا كلّه لا يمكن أن يحصل في ظل حرب مفتوحة، من هنا ضرورة وقف فوري لإطلاق النار يكون من بنوده تمويل إعادة الإعمار وتمويل الإصلاحات التي سيقوم بها لبنان.
من دون أدّنى شكّ، يأتي إقرار مشروع استقلالية القضاء كأولوية لدى المجتمع الدولي وبالتحديد مجموعة العمل المالي الدولية التي أدرجت لبنان على اللائحة الرمادية حيث أصرّت المجموعة في تقريرها الصادر في كانون الأول 2023 على أن القضاء خاضع لضغوطات وبالتالي لا يقوم بمحاسبة الفاسدين الذين تعرفهم الأجهزة الأمنية جيدًا وتمتلك كل المعلومات عن فسادهم. وتتطّلب استقلالية القضاء بالإضافة إلى إقرار القانون بضعة عشرات ملايين الدولارات لتحسين وضع الجهاز القضائي إن من الناحية التشغيلية (مكننة مثلًا) أو من الناحية المعيشية (أجور وطبابة). وهذا الأمر يحتاج إلى عشرات ملايين الدولارات لتمويله.
وتُشكّل إعادة هيكلة القطاع المصرفي أولية من أولويات الحكومة اللبنانية لأنه بدون قطاع مصرفي فعّال، لا يمكن للبنان الخروج من اللائحة الرمادية ولا يمكن للاقتصاد النهوض من جديد. وفي الماضي اصطدمت مشاريع إعادة الهيكلة التي تمّ تقديمها من قبل حكومة الرئيس ميقاتي وحكومة الرئيس دياب بواقع مرير إن من ناحية تضارب المصالح أو من ناحية اقتطاع من الودائع، وهو أمرٌ مرفوض كليًا في ظل وجود حلول أخرى، منها استعادة الثقة بالقطاع المصرفي وتأمين 15% من الكاش لتلبية احتياجات المودعين. لذا المطلوب اليوم القيام بطرح مشروع يحفظ بالدرجة الأولى أموال المودعين وتفعيل عمل القضاء لمساءلة أصحاب الأموال غير المشروعة والارتكابات التي قد يكون قام بها البعض. وباعتقادنا، تستطيع المصارف ومصرف لبنان والحكومة تأمين ما يوازي الـ 15% من إجمالي الودائع (الـ 15% هي الحاجة التاريخية للمودعين في حال لم يكن هناك مطالبة بكل الودائع) لتلبية حاجة المودعين. وبمجرّد لجم اقتصاد الكاش ووضع سقف للعمليات التجارية بالكاش بالتزامن مع ضمانة من قبل الحكومة والمصارف ومصرف لبنان على الودائع، سيكون هناك عودة طبيعية لاستخدام النظام المصرفي بما يحترم الملكية الخاصة والقوانين الدولية.
وتأتي مكافحة الفساد والتهريب والتهرّب الضريبي والتعامل بالكاش بدون سقف في طليعة الإجراءات الواجب اتخاذها. وهذا الأمر أصبح تحقيقه أكثر سهولة من السابق، نظرًا الى التطوّرات الحاصلة، ونظرًا إلى التضييق الدولي على لبنان لأجل الالتزام بمكافحة تبييض الأموال، وهو أمر نصّت عليه القوانين اللبنانية، مثل القانون 44/2015 الذي أعطى صلاحيات كبيرة لهيئة التحقيق الخاصة. هذه الأخيرة لها القدرة إذا ما استقلّت عن السلطة السياسية من ملاحقة الفاسدين في أصقاع المسكونة. هذا الأمر يتطلّب تشريعات وملاحقات استخبارتية وإدارية وتتطلّب عشرات ملايين الدولارات وبقدرة الحكومة تمويلها.
بالإضافة إلى هذه الخطوات الجوهرية، هناك ضرورة إعادة إعمار ما خلّفه العدوان الإسرائيلي وتفجير مرفأ بيروت، وهذا الأمر يجب أن يساهم فيه المجتمع الدولي من خلال عمل الديلبوماسية اللبنانية. وهناك تقديرات لحاجة البنية التحتية الى إعادة إعمارها، تتراوح ما بين المليار إلى مليار ونصف المليار دولار أميركي، قد يكون موضوعها متزامنًا مع اتفاقية وقف إطلاق النار. وبالبنية التحتية نعني المنازل، الطرقات، الجسور، محطات ضخّ المياه، محطات الاتصالات…
أما على صعيد القطاعات الاقتصادية، فإن القطاع الزراعي هو الأكثر تضرّرًا، وهو يحتاج بدون شكّ إلى الكثير من المال لتنظيف التربة من التلوّث الذي خلفته قنابل العدو الفوسفورية، بالإضافة إلى بنية الريّ التي يجب تحديثها. وهنا نتحدّث عن مئات الملايين من الدولارات الأميركية. ويأتي القطاع الصناعي أيضًا ليُشكّل عنصرا أساسيا في عملية النهوض الاقتصادي من خلال تخصيص صناعات لتلبية حاجة السوق المحلّية وخفض نسبة التعلّق بالخارج من أكثر من 80% إلى أقلّ من 50% في فترة لا تتجاوز ثلاث سنوات من تاريخ بدء الإصلاحات. وهنا أيضًا نتحدّث عن بضع مئات ملايين الدولارات قروض يجب أن تتوافر للقطاع الصناعي شرط تلبيتها حاجة السوق الداخلي بالدرجة الأولى.
أمّا على صعيد القطاع العام، فهناك حاجة كبيرة الى إعادة هيكلة القطاع العام وجعل مساهمته في الناتج المحلّي الإجمالي لا تتجاوز الـ 12% مع تركيز على فعّاليته، وهو ما يتطلّب إعادة الهيكلة الوظيفية والإدارية، وإغلاق العديد من المؤسسات التي لا جدوى اقتصادية منها.
بالطبع هناك أيضًا حاجة إلى تمويل الشق الإجتماعي، من صحّة وتربية ومشاريع صرف صحّي وغيرها، وهنا الحاجة تفوق مئات الملايين من الدولارات.
بإعتقادنا يحتاج لبنان إلى ما يقارب عشرة مليارات دولار أميركي على مدى السنين الخمس المقبلة، وذلك بهدف القيام بالإصلاحات اللازمة وإعادة هيكلة القطاع العام ومؤسساته، ودعم القطاع الخاص الذي يجب أن يكون عصب الاقتصاد اللبناني. لكن كل هذا لا يمكن أن يتمّ إلا بعد وقف إطلاق النار الذي يجب أن يحصل اليوم قبل الغد، لأن كل يوم حرب هو خسائر إضافية على الاقتصاد اللبناني الذي يحتاج إلى تمويل للنهوض باقتصاده واستخراج غازه القابع في البحر بانتظار تطوّر الصراعات الجيوسياسية القائمة حاليًا.