بعد مرور نحو أربعين يوماً على اندلاع الحرب الاسرائيلية على لبنان في 23 أيلول الماضي، لا تزال الأوضاع المأساوية تتدهور بصورة دراماتيكية، بحيث تتصاعد الخسائر البشرية وتتعمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية يوماً بعد يوم. ومع عدم التوصل إلى أي اتفاق سريع لوقف النار، يبرز التأثير المدمر والمقلق للصراع على الاقتصاد اللبناني المأزوم عبر مختلف قطاعاته، ما يستدعي استجابة عاجلة ومنحاً مالية من المجتمع العربي والدولي، ليس لتلبية الاحتياجات الانسانية الملحة لأكثر من 1.2 مليون نازح لبناني وحسب، ولكن أيضاً لدعم جهود إعادة إعمار باهظة، تُقدّر تكلفتها بين 20 و30 مليار دولار في حال توقفت الحرب اليوم.
الاقتصاد تحت الضغط
وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أضاف تصاعد الأعمال العدائية في العام 2024 مزيداً من الضغط على الاقتصاد اللبناني الهش، الذي يعاني أساساً من تبعات أزمات متتالية منذ العام 2019. إذ من المتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الاجمالي بنسبة 9.2 في المئة مقارنة بسيناريو عدم حدوث الحرب، ما يشير إلى خسائر فادحة في النشاط الاقتصادي نتيجة الصراع، بلغت قيمتها نحو 2 مليار دولار. ومن المرجح أن يصل إجمالي الأضرار الاقتصادية إلى مستويات قريبة من التقديرات المتعلقة بحرب العام 2006، والتي تراوحت بين 2.5 و3.6 مليارات دولار، أي ما يعادل 8.9 في المئة إلى 10 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي للبنان آنذاك.
وتوقع البرنامج الانمائي أن يستمر الصراع حتى نهاية العام 2024، ما سيؤدي إلى انخفاض الأنشطة التجارية بنسبة 20 في المئة نتيجة للتحديات اللوجيستية وإغلاق الحدود اللبنانية السورية، التي تعتبر شرياناً أساسياً للتجارة. بالاضافة إلى ذلك، قد تتقلص الخدمات التجارية بنسبة 8.06 في المئة. وأبرز التقرير أن القطاعات الاقتصادية ستتعرض لتأثيرات مدمرة تتفاوت في شدتها. وتُعتبر التأثيرات قصيرة المدى ذات أهمية بالغة، بحيث ستؤثر بصورة عميقة على جميع الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، ما يترك آثاراً بعيدة المدى على الناتج المحلي الاجمالي ومعدلات العمالة في البلاد. ومن المتوقع أن يشهد قطاع الزراعة والثروة الحيوانية انخفاضاً بنسبة 6.25 في المئة، بينما يواجه قطاع الطاقة والمياه أكبر انخفاض بنسبة 24.5 في المئة، ما سيؤثر بصورة كبيرة على إمدادات المرافق. كما تشير التوقعات إلى انكماش الصناعات بنسبة 3.87 في المئة، في حين قد ينخفض ناتج البناء بنسبة 1.2 في المئة. ومن المرجح أن يعاني قطاع النقل والاتصالات من انخفاض ملحوظ بنسبة 12.04 في المئة، مدفوعاً بتراجع حركة المطارات. علاوة على ذلك، من المتوقع أن يشهد قطاع الخدمات الأوسع، بما في ذلك الضيافة والترفيه والسياحة، انكماشاً بنسبة 4 في المئة، بينما من المرجح أن تتراجع الادارة العامة بنسبة طفيفة تبلغ 0.95 في المئة.
على صعيد فقدان الوظائف في القطاعات الرئيسية، تُظهر التوقعات ارتفاع معدل البطالة بمقدار 2.3 نقطة مئوية ليصل إلى32.6 في المئة في العام 2024، في إشارة إلى خسائر هائلة في الوظائف والنزوح الاقتصادي. وستؤدي هذه التطورات بلا شك إلى تأثيرات سلبية على رفاهية الأسر، إذ من المتوقع أن يرتفع مؤشر أسعار المستهلك بنسبة 6 في المئة، في حين قد يتراجع سعر الصرف. كما يُتوقع أن ينخفض الاستهلاك الخاص بنسبة 14.89 في المئة، وهو انكماش كبير في إنفاق الأسر، بينما قد يتقلص الاستثمار الخاص بنسبة 2.77 في المئة، نتيجة التراجع الحاد في ثقة المستثمرين.
وفي ما يتعلق بالتجارة الدولية، من المتوقع أن تنخفض الصادرات بنسبة 9.84 في المئة، جراء الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والقيود التجارية. وقد تنخفض الواردات بنسبة 10.87 في المئة، مدفوعةً بضعف الطلب المحلي والتحديات في الوصول إلى الأسواق العالمية. أما بالنسبة الى المالية العامة، فمن المتوقع أن ينخفض إجمالي الايرادات الحكومية بنسبة 9.16 في المئة، وبالتالي ارتفاع احتياجات التمويل بحلول العام 2046. وتشير التوقعات إلى انخفاض إجمالي الاستثمار بنسبة 6.3 في المئة خلال عامي 2025 و2026، وذلك بالتزامن مع تراجع متوقع في الاستثمار الخاص بنسب 6.6 و6.7 في المئة على التوالي.
وشهدت البنية التحتية والخدمات العامة دماراً ملحوظاً، بحيث تعرضت الطرق لأضرار جسيمة من شأنها أن تعطل التجارة والأنشطة الاقتصادية لعدة أشهر بعد انتهاء الحرب. ولا تزال الجسور والمطارات ومحطات الطاقة معرضة للخط، ما يعوق جهود التعافي. وسيساهم هذا الوضع في تأخير الانتعاش المتوقع في الناتج المحلي الاجمالي، بحيث قد تستغرق عمليات إعادة الاعمار سنوات عديدة.
القطاع الخاص ينزف
وأطلقت الهيئات الاقتصادية إنذاراً عاجلاً، محذرة من أن هذه الأزمة الكارثية تهدد جميع القطاعات. وكشفت المؤشرات بوضوح عن حجم الدمار الذي لحق بالاقتصاد، ما يستدعي اتخاذ إجراءات سريعة وفاعلة لمواجهة هذه التحديات. ولم يسلم أي قطاع من القطاعات الاقتصادية من الآثار المدمرة للحرب، بحيث كشفت الأرقام عن خسائر باهظة الثمن. وكشف تحليل أداء القطاع التجاري عن تباين ملحوظ في أنماط الاستهلاك، وشهدت المواد الغذائية ومواد التنظيف ارتفاعاً في الطلب، بينما سجلت السلع الأخرى والكماليات انخفاضاً حاداً بنسبة تراوحت بين 80 و90 في المئة.
كما تأثر نشاط القطاع الصناعي سلباً بفعل الحرب الدائرة، حيث توقفت نحو 30 في المئة من المصانع عن العمل بسبب وجودها في المناطق الساخنة. علاوة على ذلك، سجلت السوق الداخلية انخفاضاً كبيراً في الطلب، وتراجعت الطلبات الجديدة للتصدير. عموماً، تم تقدير انخفاض نشاط القطاع الصناعي في الفترة الأخيرة بنحو 50 في المئة. وباستثناء الصناعات الغذائية والأدوية ومواد التنظيف والتعقيم، شهدت جميع الصناعات الأخرى تراجعاً ملحوظاً بلغ نحو 90 في المئة.
وتكبّد القطاع الزراعي خسائر فادحة، بحيث انخفض الانتاج بأكثر من 40 بالمئة، ما يهدد باستنزاف المخزون من المحاصيل الزراعية الأساسية. في الوقت نفسه، انخفضت حركة العمل في قطاع المطاعم، الذي شهد انكماشاً كبيراً تجاوز 90 في المئة، ما أدى إلى إغلاق مئات المؤسسات المطعمية. كذلك، سجل قطاع الفنادق تراجعاً كبيراً، بحيث تقدر نسبة الإشغال حالياً بين 5 و10 في المئة كحد أقصى، بالاضافة إلى وجود فنادق شاغرة تماماً.
أما بالنسبة الى قطاع تأجير السيارات فتأثر بصورة سلبية، بحيث تراجعت الطلبات بنسبة فاقت 90 في المئة. كما توقف نشاط قطاع الفعاليات والمعارض والمؤتمرات، مع إلغاء جميع الحجوزات المتعلقة بمختلف النشاطات، ليصبح معدل الأعمال في هذا القطاع قريباً من الصفر. وعانى قطاع السهر من شلل تام، حيث بلغت نسبة التراجع 100 في المئة. كذلك انضم قطاع التأمين إلى قائمة القطاعات المتضررة، فشهد انكماشاً ملحوظاً، خصوصاً في مجال بوالص تأمين البضائع (استيراد وتصدير)، فضلاً عن توقف الزبائن عن تسديد الأقساط المستحقة للشركات نتيجة توجههم نحو الحفاظ على السيولة.
الدعم وجهود الإنقاذ
تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أظهر أنه حتى في حال توقف الأعمال العدائية بنهاية العام 2024، فمن المحتمل أن يتعرض الاقتصاد لانكماش إضافي بنسبة 2.3 في المئة في العام 2025 و2.4 في المئة في العام 2026. ويعزى هذا التوقع السلبي على المدى المتوسط إلى التباطؤ الحاد المتوقع في النشاط الاقتصادي، بالاضافة إلى الانتعاش البطيء لجهود الاعمار والتعافي بسبب الضعف المؤسسي. كما تساهم الخسائر الكبيرة في رأس المال عبر جميع القطاعات، بما في ذلك البنية التحتية والمباني والمصانع والمعدات والمرافق، في تفاقم هذه التحديات التي تواجهها البلاد، ما يضعه على حافة أزمة إنسانية واقتصادية متصاعدة. من هنا، تبرز الحاجة الملحة إلى تحرك عاجل من المجتمع الدولي لتقديم الدعم الإنساني والإغاثي، فضلاً عن تعزيز جهود إعادة الإعمار والتنمية.
وقد أسفر المؤتمر الدولي لدعم شعب لبنان وسيادته، الذي عُقد في باريس في 24 تشرين الأول 2024، عن تعهدات بمساعدات تقدر بنحو 800 مليون دولار في إطار المساعدات الإنسانية، بالاضافة إلى 200 مليون دولار لدعم الجيش اللبناني. وبالتوازي مع ذلك، قدمت الحكومة اللبنانية خلال المؤتمر خطة شاملة للاحتياجات الانسانية العاجلة والمتطلبات الضرورية لاستعادة الخدمات الأساسية في البلاد. وقد طلبت الحكومة مبلغاً إجمالياً قدره 1.1 مليار دولار، يتوزع بين 425.7 مليون دولار لتغطية الاحتياجات الإنسانية الطارئة، و672.1 مليون دولار لتوفير الخدمات العامة الأساسية.
وأشارت الخطة إلى أن لبنان يواجه أزمة حادة في أعقاب تصاعد العدوان الاسرائيلي إلى حرب شاملة منذ 23 أيلول 2024. وأكدت أن التحديات الإنسانية والمؤسسية التي تواجه البلاد ضخمة، لا سيما في مجالات الصحة العامة والمياه والتعليم. ولفتت إلى أن مؤسسات الدولة والقطاع العام بحاجة ماسة إلى دعم كبير لمنع انهيار تقديم الخدمات الصحية والاجتماعية، بالاضافة إلى تلبية الاحتياجات العاجلة للمواطنين، خصوصاً في ظل تفاقم حدة الاعتداءات.
كما قدرت احتياجات فصل الشتاء بإجمالي 51 مليون دولار، تشمل 27.4 مليون دولار للمساعدات الانسانية، و15 مليون دولار لدعم الاستقرار الاجتماعي، و3.9 ملايين دولار للملاجئ، و3 ملايين دولار لتنسيق وإدارة الملاجئ، و1.7 مليون دولار لمشاريع المياه والصرف الصحي والنظافة. وأشارت إلى وجود فجوة قدرها 6.8 ملايين دولار تتعلق بتعزيز خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة العامة وإعادة تأهيل الملاجئ الجماعية، بالاضافة إلى 1.5 مليون دولار لمستلزمات النظافة. وفي سياق متصل، تحتاج المديرية العامة للدفاع المدني إلى 5.5 ملايين دولار لتوفير معدات البحث والإنقاذ الحرجة وتلبية متطلبات أخرى.
وفقاً للخطة الحكومية، تحتاج القطاعات الأكثر تضرراً إلى تمويل عاجل لإعادة تأهيلها. وتشمل هذه القطاعات: قطاع الطاقة (5 مليارات دولار)، وقطاع الاتصالات (114.3 مليون دولار)، وقطاع الصحة (99.5 مليون دولار). كما تقدر الاحتياجات البيئية بنحو 70 مليون دولار، في حين يحتاج قطاع المياه إلى 51.3 مليون دولار لتلبية الاحتياجات الفورية وتوفير الخدمات للنازحين. بالاضافة إلى ذلك، يلزم قطاع النقل ما يقرب من 45 مليون دولار، بينما يتطلب قطاع التعليم 25.5 مليون دولار.
يشهد الاقتصاد اللبناني نزيفاً مستمراً، ويحتاج إلى ضخ أموال طائلة بصورة فورية لمنع انهياره التام. وهذه الحاجة مرجحة للإرتفاع يومياً مع استمرار الحرب وعدم تحقيق أي تقدم في المساعي الديبلوماسية نحو وقف شامل لإطلاق النار… فهل سيتمكّن لبنان من تأمين هذه المبالغ؟ وإلى أي مدى ستنجح هذه المساعدات الدولية في التخفيف من آثار الحرب وإبقاء الاقتصاد على قيد الحياة؟