وسط ما يشهده العالم من تطورات أمنية واقتصادية متسارعة، وبين الحرب الروسية-الأوكرانية من جهة، والشرق أوسطية من جهة ثانية، عقدت مجموعة “البريكس” القمّة السادسة عشرة لها في مدينة قازان الروسية، منذ حوالي أسبوع، وحضرها زعماء الدول الأعضاء في المجموعة وهم رؤساء الهند والصين والبرازيل وجنوب إفريقيا والامارات وإيران ومصر وإثيوبيا، إضافة الى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. كما شارك رؤساء بعض الدول المهتمة بتعميق علاقاتها مع مجموعة “بريكس”، كتركيا وفيتنام.
وتشارك في الاجتماعات 36 دولة، بينها 22 على أعلى مستوى وقيادات 6 منظمات دولية، تناقش قضايا التفاعل بين دول الأغلبية العالمية، في حل الأزمات الملحة، بما في ذلك تحسين بنية العلاقات الدولية، وضمان التنمية المستدامة للأمن الغذائي والطاقة، بالاضافة إلى الوضع المتفاقم في الشرق الأوسط.
وخلصت القمة الى رغبة أعضائها في تقليل اعتمادهم على الدولار ونظام “سويفت”، وهي شبكة مراسلة دولية للخدمات المالية، قطعت عن البنوك الروسية في العام 2022 بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، واستخدام عملاتهم الوطنية بصورة أكبر في التجارة، مع اقتراح خجول بإيجاد عملة موحدة لدول “بريكس”، يحمل معه الكثير من التحديات. والسؤال يطرح حول قدرة “بريكس” على تحقيق غاياتها.
الخبير الاقتصادي جاسم عجاقة، شرح في حديث لموقع “لبنان الكبير” أن “معظم الدول الموجودة في البريكس عملياً،، خصوصاً الدول الكبرى منها، هدفها محاربة هيمنة الولايات المتحدة الأميركية، وهو أمر بديهي. أما الدول الصغيرة، التي تنضم مؤخراً، فتسعى الى إيجاد أسواق للبضائع التي تنتجها، بحكم أن جميع دول البريكس هي دول منتجة وليست مستهلكة، وأستبعد أن تكون لديها القدرة على القيام بذلك، لأن العالم مقسوم الى قسمين هما قطب استهلاكي وقطب انتاجي. القطب الاستهلاكي يضم بالدرجة الأولى الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، وبالتالي الكلمة لها. كما أن إزالة هيمنة أميركا صعبة، لأن الدولار اليوم يشكل 60 بالمئة من احتياطات المصارف المركزية في العالم، وأكثر من 60 بالمئة من التعاملات التجارية في العالم تتم بالدولار، أكبر استثمارات موجودة بالعالم هي في أميركا، وبورصة نيويورك وحدها تستحوذ على 60 بالمئة من الاستثمارات في أسواق الأسهم بالعالم. لذا من الصعب جداً إزالة هذه الهيمنة في المدى المنظور، نحتاج الى أربعين أو خمسين سنة أقله لتستطيع المجموعة تحقيق ذلك. فضلاً عن أن دول البريكس نفسها منقسمة في ما بينها، ولا أفكار موحدة أو نظرة استراتيجية لديها، هنالك صراع بين الصين وروسيا وخلاف على الاستراتيجيات التجارية فالصين لديها استراتيجية توسعية استعمارية من خلال الاقتصاد، لا تتطابق مع الاستراتيجية الروسية”.
مجموعة “بريكس”: التأسيس والرؤية
منذ الحرب العالمية الثانية، والدولار هو العملة المعتمدة في معظم الحركات التجارية العالمية، ما يمنحه قوة على حساب العملات المحلية في مختلف دول العالم، التي تضطر الى شرائه لتسديد عملياتها التجارية الخارجية. وحتى آذار 2023، بقي الدولار يشكل 58.36 بالمئة من حجم احتياطات العالم من النقد الأجنبي، البالغ نحو 12.9 تريليون دولار. لكن بعض الدول رأى في هيمنة الدولار استغلالاً من أميركا لعملتها في معاقبة من يخالفها، لذلك جرى اتحاد بين عدة دول لإطلاق بديل للدولار، أو أقله عدم استخدامه في تعاملاتها التجارية.
من أبرز هذه الدول تكتل مجموعة “بريكس”، التي تأسست عام 2009. وتضم هذه المجموعة دول الصين وروسيا والهند والبرازيل، ثم انضمت اليها جنوب إفريقيا عام 2010. وفي العام 2023، انضمت كل من مصر وإثيوبيا وإيران والامارات، كذلك السعودية التي لا يزال انضمامها غير رسمي بعد.
وبلغ اجمالي حجم اقتصاد “بريكس”، عام 2021، نحو 24.73 تريليون دولار، ما يشكل نحو 29 بالمئة من الاقتصاد العالمي البالغ حجمه 96.51 تريليون دولار. وبلغت مساهمة اقتصاد “بريكس” 31.59 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي العالمي عام 2022، في حين بلغت مساهمة اقتصادات مجموعة السبع الصناعية الكبرى (G7) حوالي 30.39 بالمئة في الفترة نفسها.
وتقدر المساحة الاجمالية لدول “بريكس” بنحو 39.7 مليون كيلومتر مربع، وتشكل نحو 27.4 بالمئة من إجمالي مساحة اليابسة على الكرة الأرضية، مع تعداد سكان يصل إلى 3 مليارات نسمة، أي ما يعادل حوالي 40 بالمئة من عدد سكان الأرض.
وقد ازدادت الدعوات للتخلِّي عن الدولار داخل مجموعة “بريكس”، عقب اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية في شباط 2022، بعدما أصبحت العملة الأميركية إحدى الأدوات العقابية الغربية ضدّ الاقتصاد الروسي.
كما وأن دول “بريكس” ليست وحدها التي تسعى الى الاستغناء عن الدولار في تعاملاتها، فالأرجنتين أعلنت في الأشهر الأولى من العام 2023 عن خطة لإطلاق عملة موحدة مع البرازيل، واتفقت كل من الصين والبرازيل على استخدام عملتيهما المحليتين في التبادل التجاري بدلاً من الدولار.
قدرات “بريكس” وفاعليتها
في إطار محاولات مجموعة “بريكس” واقتراحاتها للحد من هيمنة الدولار، تحاول الصين موازنة احتياطها، عبر شراء الذهب وبيع سندات الخزينة، خصوصاً وأنها تمتلك نظاماً بديلاً لنظام الدفع “سويفت”، مع رغبتها في أن يصبح “اليوان” الصيني ممولاً للتجارة الدولية عوضاً عن الدولار. ولفت عجاقة الى أن “الصين تسعى الى أن تكون بالمعدلات العالمية للمصارف المركزية، احتياطها من الذهب هو 4 بالمئة من اجمالي الاحتياطات، بينما المعدل العالمي 12 بالمئة، وتحاول الصين شراء الذهب لرفع معدلها، وهي تشتري الذهب بالدولار ولا شك في ذلك، لأن الذهب مقوَّم بالدولار. والصين لديها مصلحة في بقاء ارتباط اليوان بالدولار لأن أكبر سوق استهلاكي لها موجود في أميركا، وهي تحمل أصول سندات خزينة بالدولار بصورة مخيفة تصل قيمتها الى حوالي تريليون دولار. من الصعب أن تفرض الصين اليوان، حتى نظامها، البديل لسويفت، لن يعتمده أحد. وفي الأسواق، يقال إن البديل الجدّي للدولار هو اليورو، الذي لم نشهد طرحاً بأن يكون عملة بديلة، لذا من الصعب جداً على الدول الأخرى تحقيق ذلك”.
كما اقترحت القمة إيجاد عملة موحدة لدول أعضائها، على الرغم من يقينها بما يحمله الاقتراح من تحديات. “الأمر معقد جداً، الصين تريد فرض اليوان، وروسيا تريد أن تفرض الروبل، حتى وإن وجد حل واقتنعت الصين وروسيا باعتماد عملة غير عملتهما الوطنية، ستتأثر الدول الأخرى صاحبة الاقتصادات الأصغر وتصبح توابع. وإن استطاعت إيجاد عملة موحدة، تحتاج الى عشرات السنين لكي تحل محل الدولار، لذا أستبعد أن نرى عملة موحدة لمجموعة بريكس”، بحسب عجاقة.
وأكد عجاقة أنه غير مقتنع بنجاح أهداف “بريكس”، قائلاً: “لتحقيقها يجدر بالدول الأعضاء تطوير أسواقها الداخلية، ويجب أن يكون مدخول المجتمع الصيني أعلى مما هو عليه، والأمر نفسه بالنسبة الى روسيا، لتصبح هذه الأسواق استهلاكية وفاعلة لها وزنها في السوق العالمي”. وأشار الى أن “نجاح بريكس سيؤدي الى تقلبات وتغيرات في الاقتصاد العالمي، وانتقال الثروات من الغرب نحو الشرق، لكنه أمر مستبعد نظراً الى التطور التكنولوجي الذي تشهده الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا”.