يبدو أنّنا كلما اقتربنا من 9 كانون الثاني، زادت حماسة السياسيين لتسجيل النقاط وبعث الرسائل السياسية بواسطة المؤسسات والموظفين، ومنها ما تُقدم عليه رئيسة لجنة الرقابة على المصارف مي دبّاغ، بهدف ضرب الاستقرار النقدي الذي ينعم به لبنان حالياً.
تفيد معلومات “نداء الوطن”، بأنّ رئيسة لجنة الرقابة على المصارف، أصدرت قراراً قضى بمنع أحد المصارف من شراء الدولار من السوق مباشرة، وطلبت إدخال الصرافين كوسطاء بين المصرف وعملائه، الأمر الذي لقي استغراب مصرف لبنان، بوصفه “محاولة” للطعن بمصداقيته، إذ أن المصرف المستهدف يجمع الدولارات لمصلحة “المركزي”.
تذاكر رياضية مخفضة
ولمن لا يعرف كيف تتم هذه العملية، تقوم المصارف بشراء الدولارات من السوق من خلال حاجة عملائها – وهم غالباً تجار ومستوردون- لليرات اللبنانية، وذلك من أجل دفعها بدل رسوم وضرائب لوزارة المالية والجمارك. هذا الطلب على الليرة نتيجة شحّها في السوق (أي لدى الصرافين) هو ما يخلق التوازن بين العرض والطلب، ويحافظ على استقرار سعر الصرف عند سعر 89,500 ليرة. وتلك الطريقة شفافة ودقيقة لدرجة أنّ مصرف لبنان قادر على معرفة مصدر كل دولار يدخل إلى خزائنه.
أهمية هذه العملية، أنّها تجمع الدولارات مقابل الليرات من جهات معروفة، ومصدر دولاراتها “شرعي” و”موثوق”، باعتبار أنّها متأتية من عمليات تجارية نظامية تخضع لرقابة وزارة المالية. كما انّ هذا الأمر يُعتبر مثالياً لقواعد الامتثال (Compliance) التي تسعى الخزينة الأميركية ومجموعة العمل المالي لدفعنا صوبها أكثر وأكثر من أجل الخروج من اللائحة الرمادية التي دخلنا إليها قبل أسابيع.
ومن هنا، تبرز مخاوف من احتمال ان تعمّم دباغ قرار منع المصارف من شراء الدولار مباشرة، فتصبح المصارف مضطرة إلى جمع الدولارات من الصرافين وليس من العملاء مباشرة. أي تسعى لإدخال “وسيط” بين المصرف وعملائه. هذا الوسيط “غير موثوق”، وقد سبق أن أثبت فشله في الإلتزام بتعليمات مصرف لبنان منذ بداية الأزمة، كما كان سبباً في تفلّت سعر الصرف في السنوات الفائتة، نتيجة الجشع والغرق في المضاربات التي حوّلت سوق الصرف إلى “كازينو كبير”.
بمعزل عن كل تلك التفاصيل، فإنّ القرار، في ما لو تمّ تعميمه وكُتب له النجاح، يُعدّ شعبوياً وبلا أهداف واضحة. بل على العكس، يسير بعكس مصالح الدولة. تتذرّع دباغ لتبرير هذا القرار بالقول إنّها لا تكترث سوى للتنفيذ الحرفي للنصوص (By the book) وطبعاً هذه الحجج يرفضها مصرف لبنان الذي تنقل مصادره استياءه من هذا القرار،، نظراً لأنّه من خارج صلاحيات دباغ بل من صلاحيات هيئة التحقيق الخاصة.
أما عن تداعيات هذا القرار في ما لو طُبق، فهي جمّة وسوف تؤثر في التالي:
1- ضرب الاستقرار النقدي، بوصفه أهم الانجازات التي حقّقها مصرف لبنان منذ رحيل الحاكم السابق رياض سلامة. وبذلك، سيعود سعر صرف الليرة إلى الارتفاع، طالما أنّ الصرافين، ومن خلفهم المضاربين، سوف يكونون الجهة الجديدة القيّمة على جمع الدولارات. أي حرفياً العودة إلى الحقبة السابقة يوم كنا نرى المضاربين والمراهنين في الطرقات يلوحون برزم الأموال بحثاً عن الدولارات لمصلحة “معلّميهم الكبار”.
2- التأثير على موظفي القطاع العام، الذين ما زالوا حتى اللحظة يحصلون على رواتبهم بالدولار الأميركي المقوّم على سعر الصرف 89,500 ليرة. بمعنى آخر، فإنّ التلاعب بسعر الصرف وارتفاعه، سوف يخفّض من قيمة الرواتب المنهارة والمتقهقرة أصلاً، لانّها بالليرة اللبنانية في الأساس لكنّها مدفوعة بالدولار “المقرّش” على سعر الصرف.
3- تراجع احتياطيات مصرف لبنان من العملة الصعبة، باعتبار أنّ التلاعب بسعر الصرف، سوف يحرم المصرف المركزي من قدرته على جمع الدولارات وادخار الفائض منها بعد دفع الرواتب والتزامات الدولة… وهذا بدوره يعني أنّ قرار دبّاغ سيؤثّر سلباً على المودعين الذين يحصّلون ودائعهم (ولو على جزء يسير منها) من المصارف وكذلك من مصرف لبنان الذي يشارك بدفعها بمعدل النصف… ناهيك عن الدفعات الإضافية التي يقرها “المركزي” منذ نحو 3 أشهر إلى اليوم نتيجة الحرب.
4- توقيت القرار يأتي في لحظة قاتلة، حيث يئنّ لبنان تحت تبعات الحرب التي خرج منها قبل أسابيع، ويلهث للاستقرار من أجل إعادة الإعمار والنهوض بالاقتصاد… وهذا أمر يستحيل أن يتحقّق في ظل الاضطراب النقدي والمالي.
5- يعيدنا القرار إلى “دائرة الضوء” الدولية. تحديداً إلى مراقبة الخزينة الأميركية ومجموعة العمل المالي (FATF) التي أدرجتنا مؤخراً على “اللائحة الرمادية” وتراقب سلوكنا النقدي والمالي عن كثب. قرار دباغ إذا نُفّذ أو توسّعت مفاعيله، فإنّه سوف يهدّد لبنان بالاقتراب أكثر وأكثر من “اللائحة السوداء”، لعدم امتثالنا لسياسات مكافحة تمويل الارهاب وتبييض الأموال، خصوصاً في ظلّ الأموال التي يُنتظر أن تدفعها إيران لإعادة إعمار الجنوب والبقاع والضاحية بالدولارات “الكاش”. فتلك الدولارات سيصل جزء كبير منها حتماً إلى أيدي الصرافين الذين تطالب دباغ بزرعهم “طرفاً ثالثاً” بين العملاء والمصارف.
مصادر أفادت “نداء الوطن” بأنّ القرار لقي استغراب وامتعاض أعلى المراجع في السلطتين السياسية والنقدية في البلاد، خصوصاً أنّ لا مبررات له ولا يقدّم أي شيء. بل على العكس، يهدّد الاستقرار ويمسّ بما تبقى من سمعة لبنان النقدية والمالية. وعليه، فإنّ المصادر ترجّح أن تقوم الجهات التنفيذية الرسمية بالتحرّك من أجل تعليق القرار، ووضع حدّ لهذا “البازار” السياسي المستجدّ والمستغرب في هذا التوقيت الدقيق.
عماد الشدياق- نداء الوطن