لم يجرؤ رئيس جمهورية، منذ اتفاق الطائف، وربّما منذ تأسيس لبنان، على التعهّد في خطاب القسم، بحصر السلاح بيد الدولة. كانت “المُقاومة” كلمة مُفتاحية في كلّ خطاب قسم، منذ 35 عاماً. وهو عمر الجمهورية الثانية. وقبلها كانت عهود وأزمنة السلاح والحروب والميليشيات.
أمس، قالها فخامة الرئيس جوزف عون، بالفم الملآن، إلى جانب دولة رئيس مجلس النواب نبيه برّي، من على منبر يطلّ على النواب، ومن بينهم نواب حزب الله: “أتعهّد بممارسة دوري لتأكيد حقّ الدولة في احتكار حمل السلاح”. قالها. قالها رئيس جمهورية لبنان، مفتتحاً “الجمهورية الثالثة”. ومعلناً بداية التغيير الكبير في لبنان، الذي يقع على تقاطع “زلزال شرق أوسطي تصدّعت فيه تحالفات وسقطت أنظمة وقد تتغيّر حدود، لكنّ لبنان باقٍ”.
منذ الساعة 10.30 صباحاً، وقبل بدء الجلسة الانتخابية الأولى، كان واضحاً أنّ “المسألة مُنتهية”. كان هناك نحو 20 كرسياً في القاعة العامة لمجلس النواب، على شرفة الصحافيين، مخصّصة “لعائلة الرئيس وفريقه”. هذا ما قاله لنا مسؤولو البروتوكول في مجلس النواب. بالطبع إلى جانب مقاعد كثيرة خُصِّصَت للدبلوماسيين ومستشاريهم ومساعديهم.
فتيات البروتوكول كنّ يعرفنَ منذ الصباح، مع التعليمات، بأنّ زوجة الرئيس جوزف عون وأولاده وفريقه المقرّب، سيصلون إلى هذه القاعة خلال النهار، ليشهدوا إلقاء خطاب القسم. لكنّ عدداً كبيراً من الصحافيين، في الطابق الأرضي، حيث كاميرات التلفزيونات، كانوا في حيرةٍ من أمرهم.
لكنّ من يعرف بعض أعضاء فريق مجلس النواب، كان يتلقّى غمزة أو إيحاءً بأنّ “الموضوع خالص”. وبالتالي، لم تكن مقرّرة الزيارة التي قام بها وفد من “الثنائي الشيعي” للاجتماع بقائد الجيش جوزف عون بعد الساعة 12.30. كان الهدف منها القول علناً، وعلى رؤوس الأشهاد: كلّ نواب الطوائف في “مَيْل”، ونواب الشيعة في “مَيْلٍ” آخر.
وكان المقصود أنّ نواب حزب الله وحركة أمل “لم يبصموا”، على ما ردّد صحافيون قريبون منهم. بل كانوا عنيدين، ومختلفين. و”فاوضوا وحصلوا على ضمانات”، كما ردّد هؤلاء على شاشات وفي تغريدات نشروها على حساباتهم الافتراضية. ومن الضمانات “وزارة المالية”.
لكنّ ذلك الخبر، الذي افترض موزّعوه أنّه سيثلج صدور أبناء الطائفة الشيعية، بدا مُحزناً. كيف انحدرت أحلام مجموعة لبنانية كبيرة، من مشروع إقليمي، إلى وزارة.
وكان الرئيس جوزف عون متقدّماً بسنوات ضوئية عن هذا العنوان، حين تعهّد بـ”المداورة في وظائف الفئة الأولى”. قاصداً أنّ لا منصب سيكون حكراً على طائفة. وهي 157 وظيفة، أبرزها قيادة الجيش، وحاكمية مصرف لبنان والمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي ورئاسة مجلس الإنماء والإعمار وإدارة طيران الشرق الأوسط…
صوتٌ واحدٌ… نقل لبنان إلى برّ الأمان
حين عاد النواب، وبدأ التصويت في الدورة الثانية، وحصل جوزف عون على 99 صوتاً، وقف الحاضرون وصفّقوا. وكان غريباً ذلك الشعور العارم والعام. كيف يمكن أن تتكثّف مشاعر شعبٍ كاملٍ في لحظة واحدة، وهم ينتابهم حدسٌ واحدٌ، ملؤه الأمل، بأنّهم “عبروا” مخاضاً طويلاً.
شعر كثيرون بإحساس مشابهٍ لحظة إعلان وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024. حينها أيقن مئات آلاف اللبنانيين المُهدّدين أنّهم لن يكونوا عرضة للموت، أو للقصف، الذي طال مناطق كثيرة. وأنّهم لن يفكّروا في احتمال موت قريب أو صديق أو عابر سبيل لا علاقة له بالحرب.
أمس، حين تجاوزت أصوات جوزف عون العدد 85 إلى 86، بدأ الصحافيون يسألون بعضهم البعض: “85 أو 86؟”. كان ذلك الصوت، تلك الورقة الصغيرة، التي كتبها أحد النواب، الشيعة طبعاً، فوق الأصوات الـ71 التي حصل عليها في الدورة الأولى… كان كافياً ليشعر اللبنانيون أنّهم، كلّهم، بالملايين، “عبروا” من بابٍ واحد. من مرحلة إلى مرحلة. من زمن خطير، إلى زمنٍ أقلّ خطورة، أو ربّما إلى “برّ الأمان”.
إذا انكسر أحدُنا، انكسرنا جميعاً
في 27 تشرين الثاني وافق الحزب على وقف الحرب والانسحاب من جنوب الليطاني وتسليم السلاح. وفي 8 كانون الثاني، بعد 42 يوماً، وافق على انتخاب رئيس الجمهورية. وفي خطاب القسم، استمع نوابه، بلا تصفيق، للرئيس الجديد يتعهّد بسحب كلّ سلاح خارج أمرة الدولة.
لهذا، يعرف كلّ اللبنانيين أنّ انتخاب الرئيس، والصوت الـ86، الذي تجاوزه العدّ إلى 99، يعني أنّ النواب الشيعة شاركوا في التسوية. ودخلوا مع زملائهم إلى “الجمهورية الثالثة”. التي يشرف عليها من كانوا يراقبون من على الشرفة، ويصفّقون، ويتأمّلون أن يدخل اللبانيون فعلاً زمناً جديداً.
وهذا يعني أنّ اللبنانيين، كلّهم مقتنعون، للمرّة الأولى، بضرورة الذهاب إلى بناء الدولة، وأن لا فضل للبناني على آخر. حيث “الجميع تحت سقف القانون، حيث لا صيف ولا شتاء تحت سقف واحد”. أي لا أحد أشرف من أحد.
Too Good to Be True
كان في خطاب القسم الكثير من الجمل غير المسبوقة، التاريخية. فكيف يجرؤ مارونيّ، في خطاب قسمه، أن يتحدّث عن “المداورة في وظائف الفئة الأولى”؟ هذه شجاعة غير مسبوقة. وهذا إعلان لا لُبس فيه بأنّ من يتعهّد، في يوم تنصيبه، خارجٌ من عباءة طائفته، ويرى اللبنانيين بعين الأب والراعي الصالح، وليس بعين المسيحي أو الماروني. لأنّ معظم وظائف الفئة الأولى الأساسية… مارونية.
ألم يَقُل: “إذا انكسر أحدُنا، انكسرنا جميعاً”؟
ثم تعهّد بإعادة الأسرى اللبنانيين لدى إسرائيل، وبناء جيش قويّ “يضبط الحدود ويساعد في تثبيتها جنوباً وترسيمها شرقاً وشمالاً وبحراً، ويمنع التهريب، ويحارب الإرهاب، ويحفظ وحدة الأراضي اللبنانية ويطبّق القرارات الدولية ويحترم اتفاق الهدنة ويمنع الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية، جيشٌ لديه عقيدة قتالية دفاعية يحمي الشعب ويخوض الحروب وفقاً لأحكام الدستور”.
همست صحافية إلى جانبي: “إذا نفّذ 10 % من خطاب القسم، يكون لبنان قد صار مثل أوروبا”. فكيف إذا نفّذ أكثر؟ ربّما يكون الخطاب Too Good to Be True، كما يقول الأميركيون. أي أجمل من أن يُصدَّق.
خطاب يصيب كلّ أحلام اللبنانيين
الخطاب التاريخي وَعَدَ اللبنانيين بإعادة إعمار ما هدّمته إسرائيل. بإقرار قانون استقلالية القضاء حيث “لا تدخّل في القضاء والمخافر ولا حماية لفاسد أو مجرم”. ببلدٍ حيثُ “لا تبييض أموال أو تهريب أو تجارة مخدّرات”.
وتعهّد بإقرار “اللامركزية الموسّعة”. وبحماية أموال المودعين، وبتعزيز علاقات لبنان العربية. وبـ”مناقشة سياسة دفاعية متكاملة كجزء من استراتيجية أمن وطني، على المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية بما يُمكّن الدولة اللبنانية، أكرّر الدولة اللبنانية، من إزالة الاحتلال الإسرائيلي وردّ عداونه على كافة الأراضي اللبنانية”.
عناوين تصيب كلّ مشاريع اللبنانيين، وأحلامهم، على اختلاف مذاهبهم وأحزابهم وعصبياتهم… لكنّ العبرة تبقى طبعاً في التطبيق. وفي السنوات الستّة الآتية.
إيران وسفيرها… والسعودية
للمرّة الأولى، لم يسمع اللبنانيون بإيران خلال الأيام الماضية. ولا بعد تسريب الأخبار عن اجتماعات وضمانات. حتّى سفير إيران كان يجلس وحده، ولم يتسابق الصحافيون لاستصراحه. ولم يصفّق.
عروض سياحية اقتصادية
كانت الندوب تملأ وجهه، من تفجير البيجر في أيلول الماضي. وعينه متضرّرة بشكل واضح. في حين كان سفير المملكة العربية السعودية الدكتور وليد بخاري يصفّق طويلاً ويضحك فرحاً.
بدا كما لو أنّ التصفيق يشبه تصفيق الجمهور، حين تُسدَلُ الستارة، بعد نهاية العرض. وفي أحيانٍ أُخرى، حين تُفتح مُجدّداً، لبدء عرض جديد…
أمس أُعلن انتهاء الجمهورية الثانية. جمهورية الوصاية السورية بين 1990 و2005. والوصاية الإيرانية بين 2005 و2024. وبداية الجمهورية الثالثة. جمهورية الإشراف العربي والدولي المباشر على لبنان. الأميركيون عسكرياً، والعرب في إعادة الإعمار. وبدا أنّ نواب حزب الله، الذين عاندوا قبل أن يوقّعوا، في 27 تشرين الثاني 2024، وأمس، قد فقدوا الكثير من وزنهم السياسي. بسبب الزلزال نفسه، الذي “تصدّعت فيه تحالفات وسقطت أنظمة”.
المصدر: أساس ميديا
الكاتب: محمد بركات