بين الطّوفان والزّلزال… دخل لبنان الشّرق الأوسط الجديد

تعمّد الرئيس  اللبناني المنتخب وقائد الجيش السابق جوزف عون، الإشارة إلى أنّ السياق الأبرز الذي حمله إلى الرئاسة، هو “الزلزال السياسي في الشرق الأوسط الذي غيّر أنظمة وقد يغيّر حدوداً”. أسقط عون عمداً كلمة “العسكري” من مواصفات الزلزال المشار إليه، على الرغم من إدراكه أنّ الحرب المندلعة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) 2023، في غزة ثمّ  لبنان ثمّ سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، هي التي أنتجت الواقع المفضي إلى رئاسته، بما ترجمته من هزيمة شبه تامّة لمحور إيران.

لا تُقرأ رئاسة عون بمعزل عن هذا السياق الإقليمي الناشئ بين عملية “طوفان الأقصى”، وزلزال الحرب الذي أعقبها، وأعاد ويعيد تشكيل خريطة النفوذ في الشرق الأوسط بشكل جذري. وعليه، ليس هذا الانتخاب مجرّد إنهاء لفراغ سياسي، بل محطّة مفصلية تعلن دخول لبنان في الشرق الأوسط الجديد، الخالي من النفوذ الإيراني ومشروع تمدّد الحرس الثوري إلى ضفاف المتوسّط عبر الميليشيات المذهبية غالباً، وما يسمّى مشروع المقاومة دائماً.

هدف هجوم حماس على إسرائيل في أكتوبر 2023 إلى إفشال ديناميات السلام التي أطلقتها “اتفاقيات إبراهيم”، وما تبعها من مبادرات إقليمية للتطبيع والتنمية المشتركة. وكان آخر الأدلّة عليها مقابلة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع قناة “فوكس نيوز” قبل نحو أسبوعين من حرب غزة. أوضح الأمير محمد أنّ بلاده وإسرائيل تقتربان من عقد أهمّ اتّفاق في تاريخ المنطقة منذ 80 عاماً.

بالتوازي، كانت هناك مفاوضات متقدّمة مع الحوثيين في الرياض لإغلاق ملفّ حرب اليمن، وتوسيع رقعة الاستقرار في الشرق الأوسط. بعكس ذلك، سعى مهندسو “طوفان الأقصى” إلى إعادة تمكين الخطاب الأيديولوجي للمقاومة، وتأمين استمرارية المنطقة كساحة صراع مستدامة تبقي إيران في صدارة التوازن الإقليمي كقوّة حاسمة ضمن ما يسمّى نظريّة وحدة الساحات.

الطّوفان أطلق الزّلزال

بيد أنّ الطّوفان أطلق الزلزال الذي تحدّث عنه الرئيس اللبناني المنتخب، وأدّى إلى إعادة رسم المشهد الإقليمي بعكس الاتّجاه الذي أرادته إيران.

قضت الحرب التي شنّتها إسرائيل بدعم إقليمي ودولي، على حركة حماس ودمّرت بنيتها التحتية في غزة، وأنزلت بـ”الحزب” ضربة قاصمة هي الأفدح عسكرياً وسياسياً منذ نشأته. ومثّلت موافقة “الحزب” على الانسحاب من جنوب لبنان كجزء من اتّفاق وقف إطلاق النار، النهاية الفعليّة لنفوذه العسكري في البلاد.

أفضى الانهيار البائن للنفوذ الإيراني في المشرق إلى انهيار النظام السوري وانطلاق مرحلة جديدة من إعادة ترتيب سوريا خارج سيطرة طهران على دمشق. ومع فقدانها القدرة على استخدام وكلائها كأدوات للضغط الإقليمي، خرجت إيران من سوريا، وفتح خروجها الباب واسعاً أمام مشاريع سياسية سيادية عربية ترفع عناوين التنمية والاستقرار بعيداً عن الصراعات الطائفية.

في العراق لا يمكن إلّا ملاحظة الجهود الكثيفة، لكن الدقيقة، التي يبذلها رئيس الحكومة محمد شياع السوداني لتحقيق التوازن بين علاقات بغداد مع إيران وضمان سيطرة حكومته على الميليشيات المدعومة منها في الوقت نفسه.

لم يشذّ قائد الإدارة السياسية الجديدة في سوريا، أحمد الشرع، عن هذا المسار، والذي على الرغم من مجيئه إلى الحكم من قاموس آخر تماماً. سرعان ما انخرط، ولو على مستوى الخطاب حتى الآن، في مفردات التنمية والتكامل والتهدئة والاستقرار.

انتخاب عون مختصر للتّحوّلات

يجعل هذا السياق، من انتخاب العماد جوزف عون رئيساً للبنان، مختصراً للتحوّلات الجديدة في المشرق العربي، وعنوانها الأبرز هزيمة مشروع ما يسمّى المقاومة، وتحلّل سياسات الهيمنة الإيرانية.

عبّر خطاب القسم بوضوح لا لبس فيه، ولأوّل مرّة في لبنان منذ اتّفاق الطائف، عن توجّه حقيقي لحصر السلاح بيد الدولة  اللبنانية من دون أيّ مغازلة لما يسمّى المقاومة، كما عبّر عن التزام لا لبس فيه بتطبيق القرار 1701 بكامل مندرجاته من دون أيّ تحايل أو تذاكٍ.

ما بين طوفان الأقصى الذي سعى إلى تقويض مشاريع السلام، وزلزال الردّ الذي أعاد ترتيب المنطقة بطرق لم يكن يتوقّعها أحد، أُعلِن عبر انتخاب جوزف عون عن دخول  لبنان الشرق الأوسط الجديد، الذي من عناوينه الرئيسية تراجع خطاب المقاومة أمام مشاريع التنمية والاستقرار وتقدّم أولويّات السيادة والاقتصاد على خطاب الأيديولوجية والحروب المفتوحة، بالتزامن مع إخراج إيران تماماً من المعادلة المشرقية، وتعزيز تحالف السلام والتنمية في الإقليم.

نديم قطيش-اساس

Exit mobile version