3 أصابع تتحرَّك في الشارع
المصدر: ليبانون فايلز
هل ما زال مُمكِناً تَجنُّب التصادم في الشارع؟ لو كان الأمر مقتصراً على الحراك الشعبي الاعتراضي، كما بدأ في 17 تشرين الأول 2019، لكانت قوى السلطة ربما قادرة على إحباطه مرةً أخرى. لكن الشارع اليوم يبدو أكثر تعقيداً: بعضُ القوى يتقدَّم نحو المواجهة لأنّ لا خيار أمامه إلّا التقدُّم، والبعضُ يتقدَّم نحوها لأنّ الهجوم أفضل وسيلة للدفاع، والبعضُ يَهرُب… ولكن إلى الأمام. فأين المفرُّ من التصادم؟
الجميع يريد أن يعرف: ماذا يجري اليوم تحديداً في الشارع، ومَن هم هؤلاء الذين يتحرَّكون هنا وهناك، ومَن يقوم بتحريك مَن؟ وهل أولئك الذين هم في وسط بيروت هم «مِن طينةِ» الذين يتحرّكون في جل الديب مثلاً؟ وهل الجماعة التي تقطع الطرق في الشويفات هي نفسهما جماعة صوفر أو حلبا أو النبطية؟ وفي عبارة أخرى، هل الحراك الجاري هو نفسه أينما كان، أم إنّه في الواقع «حَراكات» مختلفة تختبئ وراء العناوين المطلبية؟
العالِمون يقولون: إنّها «خلطة سحرية» حيث 3 أصابع تتحرَّك، ولكل منها برنامجه وأهدافه:
1- هناك الحَراك الشعبي غير المصنَّف سياسياً، والذي كان في أساس انتفاضة 17 تشرين. وقد أشتعلت شرارته مع تجاوز الدولار سقفاً نفسياً هو الـ10 آلاف ليرة، مثلما اشتعلت آنذاك بالضريبة على «الواتساب»، وفي ذروة الجوع والإحباط والقهر. وقد خلقت نداءات البطريرك بشارة الراعي مناخاً أكثر ملاءمة لاشتعال هذه الشرارة.
نقطةُ ضعف هذا الحراك تكمن فيه أنّه ما زال من دون برنامج ولا قيادة. وإذا كان مُشرِّفاً له أنّه حراكٌ وطني اجتماعي مطلبي عابر للطوائف، فإنّ هذه الميزة هي أيضاً نقطة ضعفٍ في عموده الفقري، وتستغلها ماكينات العصبيات الطائفية والمذهبية المنظّمة سياسياً وأمنياً وإعلامياً، والمدعومة بالدولارات الطازجة وبالنفوذ.
في الأشهر الأخيرة، وصل الحراك الاعتراضي الشعبي إلى «الموت السريري». وكانت قوى السلطة مطمئنّة إلى أنّها ستقيم مراسم دفنه قريباً. ولذلك، قرَّر الحراك أن يتقدَّم خطواتٍ ليثبت أنّه ما زال على قيد الحياة. ولكن، هل يتاح له أن ينتصر؟ تلك مسألةٌ مرهونة بالآتي من التحوُّلات.
2- في الشارع أيضاً «حزب الله» وحلفاؤه في السلطة. وهؤلاء نزلوا بناء على القاعدة العسكرية الكلاسيكية، «إنّ أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم». وهم لا يريدون أن يقعوا مجدداً في سيناريو 17 تشرين، عندما عانوا من كونهم في موقع المتَّهم أو المذْنِب.
ميعاد التحرّك كان اللحظة التي انطلق فيها نداء بكركي، وما أظهره من تعاطف شعبي. فاعتمد «الحزب» خطة استيعاب ذكية: سارع إلى تحريك الشارع في بيروت قبل أن ينزل إليه الآخرون، وسبقهم بالشعارات المطلبية. وللمرّة الأولى، أتاح للجماهير أن تتحرَّك مطلبياً من داخل بيئاته، من دون أي اعتراض.
وخطة الاستيعاب هذه، في الشارع، هي النسخة الميدانية لخطة الاستيعاب السياسي التي بدأها «الحزب» وحلفاؤه تجاه بكركي. وفي موازاة الاستيعاب، هناك استعداد للمواجهة أيضاً. إنّهم يجهِّزون كل أدوات السياسة والأمن والإعلام لـ»خردقة» الحراك الشعبي حيث تدعو الحاجة، كما فعلوا سابقاً، وتخوين القائمين به وشيطنتهم، تمهيداً لإحباطهم مجدّداً.
3- الطرف الثالث الذي يحرّك الشارع يتمثّل بخصوم «حزب الله» السياسيين، أي قوى 14 آذار سابقاً، من داخل السلطة («المستقبل»، «القوات اللبنانية»، الاشتراكي…) وغالبية هؤلاء يعيشون وضعية إرباك. فمن جهةٍ هم مرتبطون مصلحياً بالسلطة وشركائهم فيها، ومن جهةٍ أخرى هم يجدون فرصة لاستعادة توازن القوى المفقود بينهم وبين «حزب الله» وحلفائه، وفرصةً أخرى لاستثمار الرصيد الذي يوفِّره الحراك الاعتراضي.
لذلك، تنشط جماعاتٌ من أنصار هذه القوى في بيئاتها. وثمة انسجام نسبي وتلاقٍ آنيٌّ في المصالح بينها وبين جماهير الحراك غير المصنّفة سياسياً. ويدرك «الحزب» وحلفاؤه مخاطر المواجهة مع الخصوم السياسيين في الشارع، لأنّ لها أبعاداً طائفية ومذهبية أيضاً.
في المقابل، إنّ قوى السلطة التي تعتمد الترغيب والترهيب لشرذمة صفوف الحراك المطلبي، تعتمده أيضاً لشرذمة صفوف قدامى 14 آذار، وكثيراً ما نجحت في ذلك. والدليل حجم الخلافات بين «المستقبل» و»الاشتراكي» و»القوات». ويجدر التذكير أنّ عدداً من أركان 14 آذار لطالما استفادوا من الشراكة مع «الحزب» وحلفائه في السلطة، من أجل الحصول على غنائم سياسية كانت أو غير سياسية. وربما ما زالوا يخطّطون للاستفادة، على رغم كل شيء.
لو كانت طبيعة المواجهة الجارية في الشارع، بين القوى الثلاث، محليةً فحسب، لكان ممكناً تقدير نهاياتها، لكنها مرتبطة بالنزاع الإقليمي، حيث يتمّ استخدام لبنان واللبنانيين في محرقةٍ يتمّ إشعالها.
إنّ أكثر ما «يدعو الى الهلع» هو كمية الشائعات و»الفبركات» التي يجري ضخُّها عبر مواقع التواصل، وكلُّها من العيار الثقيل جداً، والنوع المحرَّم استخدامه أمنياً وطائفياً ومذهبياً، والذي لم يسبق استخدامه في أي مواجهات داخلية. والتدقيق في كل شائعة و»تركيبةٍ» يثير الرعب ويطلق العنان للهواجس. فما الذي يجري تحضيره للبلد في المرحلة المقبلة؟