لم تكتفِ بسرقة أموال المودعين…المصارف تفرض خوّات
المصدر: الأخبار
لا تكتفي المصارف بحجز أموال المودعين وتقسيطها لهم مع حسم يصل الى 68% من قيمتها، بل باتت تفرض عليهم خوّات يُشبّهها أحد العاملين في القطاع بتلك التي كانت تفرضها الميليشيات على المواطنين خلال الحرب الأهلية. فتحت حجة «إفلاسها»، ابتدعت المصارف اللبنانية رسوماً جديدة بالدولار؛ منها ما تُطلق عليه تسمية رسم شهري بقيمة 2$، ومنها ما يُسمّى رسم صيانة فصليّاً من دون إيضاح أي نوع صيانة يقوم به المصرف للحساب الجاري. فمثلاً، ومن خلال بيان مصرفي لحساب جارٍ بالدولار (اللولار) اطلعت عليه «الأخبار»، حسم أحد المصارف من حساب المودع، 10 دولارات مرتين (أي ما مجموعه 20 دولاراً) لقاء «رسوم صيانة فصلية»، ثم عاود في النهار التالي حسم 10 دولارات إضافية لقاء البند نفسه! هذا الرسم منفصل عن الرسم الشهري الذي يتقاضاه من العميل، ويبدأ من قيمة دولارين، لكنه غير ثابت ويتغير كل شهر.
ويشير أحد العاملين في أحد المصارف إلى أن «شحّ الموارد أجبر المؤسسة على التعويل على هذه الرسوم لزيادة مداخيلها وسدّ مدفوعاتها من الرواتب ومصاريف أخرى»! ليس ذلك فحسب، ففي غياب أي رقابة على أعمال السمسرة و«التشبيح» على المودع، بات بعض المصارف يحتسب الطابع الوطني بالدولار وبقيمة تصل أحياناً الى 7 دولارات للطابع! وعندما طلب أحد الأشخاص دفع قيمة طابعين الأول من فئة 1000 ليرة والثاني 250 ليرة «كاش»، طُلب منه مبلغ 35 ألف ليرة لما يفترض أن تكون قيمته 1250 ليرة فقط، أي بزيادة 33 ألفاً و750 ليرة! لماذا؟ هل أصبحت المصارف تتاجر بالطوابع أيضاً؟ لا جواب طبعاً سوى أن وقاحة أصحاب المصارف بلغت مداها، وباتت تتصرف بحسابات المودعين على هواها، و«تلغّم» بياناتهم المصرفية ببنود اخترعتها وتحتسب القيمة الواجبة عليها بعشرة أضعاف قيمتها الأصلية، من دون تبرير. الطريف هنا أن هذه الخوّات غير ثابتة، وتتعلق بمدى قدرة الزبون على «الصراخ». فإن اكتشف عملية الاحتيال وواجه بها المصارف ورفع صوته في وجهها، تسارع الى لململة الفضيحة بإعادة ما حسمته، فيما تُمعن في سرقة المودع بصمت إن لم يتنبّه لهذه العملية.
منذ مدة أيضاً، بدأ بعض المصارف بترهيب المقترضين منه عبر الاتصال بهم وتهديدهم بالحجز الاحتياطي على الشقة أو السيارة، إنْ لم يعمدوا الى تسديد المستحقات المتراكمة عليهم فوراً. رغم أن القانون 199 الذي صدر في اليوم الأخير من العام الماضي قضى بتمديد المهل (حتى 27 آب 2021)، ومنح بعض الإعفاءات من الضرائب والرسوم، كما علّق مفاعيل البنود التعاقدية المتعلقة بالتخلف عن تسديد القروض بأنواعها كافة، سواء المدعومة أم غير المدعومة، من تجارية وسكنية وصناعية وزراعية وغيرها، بحيث لا تسري على المقترض أي إجراءات قانونية أو تعاقدية. لكن المصارف ضربت بهذا القانون عرض الحائط، على ما يقول أحد المحامين العاملين في القطاع المصرفي، مضيفاً: «تجبرنا المصارف على الاتصال بالزبون وتهديده بطريقة غير أخلاقية حتى يدفع المبلغ الواجب عليه، رغم أنه لا يمكنها تنفيذ أي حجز احتياطي قبل انتهاء هذه المهل». ويشرح المحامي بأن المصرف لن يتقدّم بشكوى قضائية تمكّنه من الحجز على الملكية العقارية، لأن القضاء سيتسلّح بقانون تمديد المهل. إلا أن إدارة البنك، يضيف المحامي، تريد ترهيب المقترض لدفعه إلى تسديد المستحقات المتأخرة.
في المقابل، تستخدم أموال مصرف لبنان المحوّلة إليها لدفع أموال المودعين بالليرة اللبنانية، لزيادة رواتب موظفيها. بمعنى أوضح، الموظف الذي يتقاضى راتباً يساوي مليون و500 ألف ليرة، يتم تحويله الى الدولار على سعر الدولار القديم أي 1500 ليرة، ليتاح له بعدها سحب الراتب باللولار على أساس 3900 ليرة. هكذا يستفيد من زيادة قدرها مليون و400 ألف ليرة يسددها المصرف من «كوتا» مصرف لبنان المخصص له. وبذلك يكون صاحب المصرف قد رفع «زودة» الى موظفيه من جيب أصحاب الودائع. مصرف لبنان المتيقن ممّا تجريه مصارف المراباة أرسل إنذاراً لها بضرورة التوقف عن القيام بهذه العملية، فوجد بعض المصارف وسيلة أخرى لإخفاء هذه السرقة، عبر حثّ موظفيه على تزويده بحساب آخر مشترك مع الزوج أو الزوجة لتحويل الأموال اليه.
في السابق، كانت مهمة هذه المؤسسات المالية توفير خدمات للزبون وإقراضه وحفظ وديعته مقابل فائدة وغيرها من الخدمات المباشرة والإلكترونية. لكن اليوم لم تعد المصارف «مصارف» بما تعنيه الكلمة، بل مجرد لافتة وهمية لأعمال لا تقرب من ظروف إنشائها وشروطه. فباتت تقتصر مهامها على المراباة والسمسرة والاحتيال، فضلاَ عن أنها تحوّلت الى ما يشبه شركات تحويل الأموال؛ فمقابل أي حساب للدولارات الطازجة، ثمة «خوّة» تراوح بين دولارين و4 دولارات شهرياً، يضاف اليها نحو 5 دولارات على كل ألف دولار. حتى إن بعض المصارف تمتنّع عن تسديد تحويل أموال آتية من الخارج دفعة واحدة، بل يفرض تجزئتها على ثلاثة أشهر! ولأن المصرف هو جزء أساسي من التجارة القائمة في السوق السوداء، بات هو أيضاً «يشتري» شيكات بالليرة اللبنانية ويسدّدها نقداً مع اقتطاع نسبة 5% من قيمتها كعمولة، حتى لو كان الشيك صادراً من المصرف نفسه!
من جهة أخرى، يرفض أحد المصارف تقاضي الدفعة الشهرية المستحقة على قرض سكني، بالليرة اللبنانية، ويصرّ على تقاضيه بالدولار. وبعدما صفّر العميل حسابه بالدولار ولم يتبقّ له سوى حساب بالليرة، عمد البنك الى سحب المبلغ المستحق على زبونه بالدولار من حساب الكفيل المودع في المصرف نفسه، رغم أن السعر الرسمي للدولار لا يزال 1515 ليرة، ولا يزال مصرف لبنان يفرض على المصارف قبول تسديد دفعات قروض الأفراد بالليرة. في المقابل، يعرض بعض المصارف على المقترضين تسديد قروضهم «كاش»، بثلث قيمتها، فمن عليه قرض مستحق بقيمة 120 ألف دولار، يدفع 35 ألف دولار طازج للبنك مقابل تسكير القرض والحصول على براءة ذمّة.
من يملك حساباً بالليرة اللبنانية، ويريد سحب كل الأموال المودعة فيه، يمكنه التفاوض مع المصرف على النسبة التي تخوّله ذلك. وغالبية البنوك تشترط اقتطاع 5% من قيمة الحساب لدفعه مرة واحدة، من دون الالتزام بالسقف المحدد للسحوبات. ولكن لقوننة عملية الاحتيال، تجبر المصارف العميل على توقيع وصولات مسبقة بدفعات مجزأة على عدة أشهر. العمولات هذه باتت نهجاً مُتّبعاً في غالبية العمليات. فالأرباح الكبرى تتم عبر النسب المقتطعة من التجار المستفيدين من دعم مصرف لبنان لشراء بضاعتهم. ورغم تحديد تعميم مصرف لبنان نسبة العمولة لكل مصرف على كل عملية بقيمة 0.5%، لا توافق المصارف على تلبية طلب التاجر سوى بعد تقاضيها عمولة بنسبة 2% وما فوق، فيضطر التاجر الى دفعها. هنا أيضاً تدخّل مصرف لبنان للحدّ مما يحصل، لكنه لم ينجح في لجم المصارف التي لا تتجاوب مع التاجر في حال عدم قبوله بشروطها. في مقابل ذلك، يمتنع البنك عن فتح حسابات للشركات المؤسسة حديثاً لأنها تسبب له «وجعة راس» أكثر مما تربّحه، فيما عمد أحد المصارف أخيراً الى إبلاغ إحدى الشركات بحسم 5% من مجموع الرواتب المُوَطّنة لديه، ليشير المصرف نفسه بعدها إلى أن الإجراء هذا يتعلق بالشركات المستفيدة من خدمات معينة وليس الأفراد، من دون أن يوضح ما هي طبيعة هذه الخدمات، فيما لم تعد المصارف تقدّم أي خدمة ولو صغيرة. وتتقاطع المعلومات هنا حول قيام بعض المصارف بفرض الإجراء ذاته على الشركات لدفع عمولة مرتفعة مقابل حسابات موظفيها الموطّنة. ويدخل ذلك في إطار التسبب في طرد الموظفين والحسم من رواتبهم، من دون أي مسوغ قانوني يسمح بذلك.
تستفيد المصارف من الفوضى الحاصلة في هذا القطاع ومن «يأس» الناس وقبولهم بما يتوافر لهم، لمضاعفة خساراتهم، وتكبيدهم عمولات ورسوماً غير قانونية بقوة الأمر الواقع. يحصل ذلك في غياب أي رقابة أو رادع. ففيما تستفيد المصارف من طبع مصرف لبنان العملة لتسديد الودائع بعد تنفيذ «هيركات» (قص للودائع بالدولار) يصل إلى 68 في المئة من قيمتها، وهو ما يطفئ خسارة هذه المصارف ويسهم في سدّ فجوة حسابات المصرف المركزي، يمعن أصحاب المصارف، بوقاحة، في تطبيق «هيركات» آخر ناعم على الودائع تحت مختلف التسميات، أكانت رسوماً شهرية أم رسوم صيانة أم طوابع أم نسباً مقابل التحويلات الفريش وصرف الشيكات!
«جريمة» المصارف بحق المودعين لا تقتصر على أصحاب الودائع، بل تطورت لتمُسّ بتعويضات المواطنين ورواتب المتقاعدين، إذ تعمد هذه البنوك الى احتجاز التعويضات لديها. على سبيل المثال، عجز أحد العسكريين بعد تقاعده عن سحب تعويضه بعد حجز المصرف عليه، وإبلاغه عدم قدرته على سحبه مرة واحدة بل على دفعات صغيرة، وذلك على الرغم من أن مهمة البنك هنا محصورة في كونه مجرد وسيط، بين وزارة المال والمتقاعد الذي يفترض أن يتقاضى تعويض نهاية خدمته بالليرة اللبنانية. ما حصل هو أن المتقاعد خضع لابتزاز المصرف ووافق على تجميد هذا الراتب. في حالة أخرى، أنهت شابة عقدها مع إحدى الشركات التي حوّلت لها تعويضها الى حسابها المصرفي. تكرر المشهد نفسه. رفض المصرف الموافقة على سحب المبلغ بكامله، مؤكداً أن لا سبيل سوى سحبه على دفعات، لا تتعدى الدفعة منها 5 ملايين ليرة لبنانية شهرياً بحسب السقف المحدّد للسحب بالليرة، ما يؤدي إلى خسارة إضافية لقيمة التعويض، في ظل الارتفاع المستمر لسعر الدولار.