الصراع على رئاسة الجمهوريّة… أبعد من اسم الرئيس
المصدر: أساس ميديا
لعلّ الخلاصة الرئيسة من التطوّرات السياسية الأخيرة في لبنان هي أنّ الحسابات الرئاسية للقوى السياسية، ولا سيّما المارونية منها، باتت جزءاً رئيساً من مجمل الحراك السياسي في البلد، بحيث إنّ كل خطوة سياسية تقدم عليها هذه القوى تكون مربوطة بهذا الاستحقاق. فبدأ من ملابسات “عدم توقيع” رئيس الجمهورية على تعديل المرسوم 6433، مروراً بالتصعيد السياسي – القضائي الذي شرع به العهد و”التيار الوطني الحر” ضدّ خصومه ولاسيما المسيحيين منهم، وصولاً إلى مقترحات النائب جبران باسيل السبت 24 نيسان في ما يخصّ ملفّ ترسيم الحدود مع إسرائيل وتحديداً مطالبته بـ “مفاوضات سياسيّة” مع تل أبيب، كلّ ذلك يشكّل إيذاناً بانطلاق السباق الرئاسي الذي تفيد كلّ المؤشرات بشأنه أنّه سيكون محموماً جدّاً هذه المرّة.
حتّى الانهيار الاقتصادي، الذي يُفترض أن يدفع نحو مفاقمة الضغط الشعبي على القوى السياسية، تحوّل مجالاً تستثمر فيه هذه القوى لتحسين شروطها السياسية والرئاسية، كلّ على طريقته، بدءاً بكراتين الإعاشة وصولاً إلى المزايدات في موضوع الترسيم البحري وفي المسؤولية عن الانهيار نفسه.
يجعل كلُّ ذلك الاستحقاقَ الرئاسي استحقاقاً مُبكراً جداً، بمعنى أنّه استحقاق يضبط منذ الآن الإيقاع السياسي في البلد، ولا سيّما أنّ سياسات العهد الحالي باتت رئاسية بحتة، من حيث تركيزها على تخفيف الضغط السياسي على مرشّح العهد للرئاسة النائب جبران باسيل. ولعلّها المرّة الأولى في تاريخ الجمهورية اللبنانية، التي يهجس عهدٌ رئاسيّ، إلى هذا الحدّ، بالعهد التالي.
ولا شكّ أنّ هذا الواقع يعقّد أكثر عملية تشكيل الحكومة، لا بل يجعلها ثانوية أمام الانتخابات الرئاسية. والأكيد أنّه كلما تأخّر تشكيل الحكومة واقتربنا أكثر من نهاية الولاية الرئاسية الحالية، ستتعقّد المفاوضات في تشكيل الحكومة أكثر باعتبار أنّ القوى المسيحية ستلخّص استحقاق تأليف الحكومة بكونه مدخلاً للاستحقاق الرئاسي المقبل.
إذّاك يصبح من المستحيل التصوّر أنّ العهد والتيار يمكن أن يتراجعا في شروطهما لتأليف الحكومة، بل على العكس سيتصلّبان أكثر في مجمل حراكهما السياسي. حتّى لو شاء حزب الله، حليفهما الرئيس، تأليف الحكومة لاعتبارات فوق لبنانية، فستكون قدرته على إقناع العهد والتيار بالتنازل ضئيلة أكثر من ذي قبل. وعليه، يستطيل الفراغ الحكومي شهوراً إضافية، وربّما يتزامن الفراغان الحكومي والرئاسي، إلّا إذا استطاعت المبادرات الحكومية الداخلية والخارجية اختراق جدار الشروط العونية من خلال صيغة لا تظهر التيار والعهد متراجعين أو منكسرين، وتستطيع في الوقت نفسه إنتاج حكومة ترضي الأفرقاء الآخرين. لكن في مطلق الأحوال، لا يمكن توقّع حكومة تعبّر طبيعتها وتركيبتها عن خسارة للعهد وفريقه السياسي.
والحال هذه، لا يعني إطلاق القوى المسيحية السباق إلى رئاسة الجمهورية أنّها الوحيدة المهتمّة بهذا السباق من خارج الأولويّات الملحّة في البلد، وفي مقدّمها تأليف الحكومة لكبح جماح الانهيار، بل إنّ الناخب اللبناني الأكبر في الانتخابات الرئاسية وفق موازين القوى الحالية، أي حزب الله، معنيّ بقوة بهذه الانتخابات. والأكيد أنّه بدأ يقيم حسابات خاصّة جدّاً بشأنها، ويراقب حركة المرشّحين وخطابهم، لأنّه لا يريد أن يخسر الامتيازات السياسية الكبيرة، التي وفّرها له انتخاب ميشال عون عام 2006.
كلّ ذلك من شأنه أن يجعل الانتخابات الرئاسية المقبلة محطّة مفصليّة في مسار الأحداث اللبنانية، باعتبار أنّ انتخاب عون كان بمنزلة مأسسة انضمام لبنان إلى محور إيران في المنطقة. وهو ما لم يؤدِّ في نهاية المطاف إلى عزلة رئاسة الجمهورية فحسب، بل إلى عزل لبنان أيضاً. وقد كان ذلك سبباً رئيساً في وقوع الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة لأنّ عزلة لبنان الحالية غير مسبوقة هي الأخرى.
ويستتبع كلّ ذلك أنّ الاستحقاق الرئاسي المقبل سيكون الفيصل الذي على أساسه إمّا يخرج لبنان
من عزلته ويعيد ترتيب علاقاته وسياساته الخارجية وفقاً لمصالحه الحيوية،
وإمّا يبقى لبنان أسير معادلات موازين القوى الإقليمية والدولية التي يدفعه إليها حزب الله بطبيعة
حركته السياسية والعسكرية والأمنية في المنطقة. وهذا هو جوهر الصراع على رئاسة الجمهورية.
لذلك ليست شخصية الرئيس المقبل وحدها ما يحسم هذا الصراع، بل إنّ طريقة انتخابه والقوى المؤثّرة فيه هي التي تحكم
مسار الرئيس الجديد والمسار اللبناني العام لست سنوات جديدة وربّما أكثر. فالعهد الحالي،
وإن كان مطبوعاً بشخصية الرئيس وتاريخه الإشكالي والانقسامي، فقد كان مطبوعاً بالدرجة الأولى بكيفية انتخابه.
إذ إنّ تسوية 2016، التي أُسبغ عليها طابع توافقي على أساس المحاصصة السياسية الطائفية،
ما لبثت أن انفضحت ليتبيّن أنّها لم تكن سوى إذعان أفرقائها لشروط حزب الله.
أضف إلى ذلك أنّ العهد الحالي أثبت أنّ تأثير رئيس الجمهورية في المسارات السياسية الداخلية والخارجية للبلد ليس هامشياً أبداً،
بل هو أساسي ومحوري. صحيح أن العهد استفاد من موازين القوى الحالية الراجحة كفّتها لصالح الحزب حليفه،
لكن ذلك غير كافٍ لوحده لقياس القدرة السياسيّة لرئاسة الجمهورية.
فقد وظّف العهد القوّة السياسيّة للرئاسة للحفاظ على مصالح فريقه السياسي،
فكان تصرّفه تصرّف طرف سياسي لا حكم فوق النزاعات السياسية. فحاد بذلك عن الدور الذي يُفترض برئاسة الجمهورية أن تقوم به،
ولا سيّما في وقت الأزمات السياسية الداخلية التي غالباً ما كانت عبر التاريخ اللبناني صدى لصراعات إقليمية ودولية في المنطقة.
ففي كلّ مرّة كان رئيس الجمهورية جزءاً من الصراع السياسي كان يحدث انفجار متفاوت الحجم في البلد بقدر تفاوت
حجم انخراط الرئيس في الصراع السياسي. ويمكن الاستدلال على ذلك من تجربة الرئيسين كميل شمعون وسليمان فرنجية
قبل الطائف، ومن تجربة الرئيسين إميل لحود وميشال عون بعده، وذلك مع اختلاف الظروف والأشخاص.
وقد لعب العهد الحالي لعبة مزدوجة، فمن ناحية اتكأ على دعم حزب الله له لممارسة الحكم بما يحفظ مصالح فريقه،
ومن ناحية ثانية قدّم مسألة تعديل صلاحيات رئيس الجمهورية في اتفاق الطائف بوصفها حائلاً دون ممارسته الناجحة للحكم.
فغلّب موازين القوى على الموجبات الدستورية والوطنية للرئاسة بما انعكس سلباً على مجمل الأوضاع اللبنانية
وصولاً إلى وقوع لبنان في العزلة، وتحجّج في الوقت نفسه بمعوقات دستورية أجهضت قدرته
على تصحيح المسار اللبناني المتدهور إلى حدّ الانهيار التامّ.
وفي المحصّلة سيكون الاستحقاق الرئاسي المقبل محكوماً بمسارين: فإمّا أن تتكرّر تجربة العهد الحالي،
ولا سيّما لناحية ظروف وكيفية انتخاب الرئيس، وإمّا أن تكون تلك التجربة الفاشلة
بكلّ المقاييس محفّزاً لإعادة صوغ دور رئاسة الجمهورية بوصفه دوراً ممتصّاً للنزاعات الداخلية.
وهو الدور الرئاسي الوحيد الذي يخوّل لبنان القيام بوظائف إيجابية في المنطقة على غرار ما يفعله
راهناً رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي… وإلّا فسيكون دور الرئيس المقبل التصديق على أقوال الشيخ
صادق النابلسي الذي قال إنّ التهريب الحدودي جزءٌ من العمل المقاوم، ولا همّ إن جعل هذا التهريب لبنان منصّة لتصدير المخدّرات!