خياراتٌ “إنتحارية” لحلّ الأزمة
المصدر: بيان
كل الذي يدور حالياً على المسرح السياسي عبارة عن عملية إلهاء تخوضها بإتقان القوى المحلية الضامنة لاستمرار النظام وفق الشكل الذي هو فيه. المسألة، أو الخلاف بالأحرى أعمق من قضية تأليف حكومة ونزاع على هوية رئيسها الذي يصرّ على تأليفها ولا يفعل، في ظل تحسّسه بقرب موعد قلب النظام، لذا يبحث عن ضمانات كغيره من أعضاء المجموعة الحاكمة، إنما يدور الخلاف حول وضعية هذه الحكومة ودورها المستقبلي وبرنامج عملها، وأعمق من ذلك، فإن صلب المشكلة يحوم حول خيارات الدولة المستقبلية ومراكز ثقلها الإقتصادية والسياسية والنقدية، أي الدولة التي، ومن المفترض، أن تخلف النسخة الحالية من لبنان الكبير.
هذا يعني عملياً أن الخلاف جوهري في عمقه، وهذا يبرّر حالة الإستعصاء الراهنة. لكن كيف نصل إلى تلك الدولة؟ عملياً، يمثل الإنهيار الإقتصادي والمالي والسياسي الحالي ممراً إلزامياً إلى ذلك. حكم على لبنان تاريخياً أن يعبر نحو التغييرات الهجينة من خلال إسالة الدماء وخوض الحروب، لكن وفي هذه المرة اختلفت المعايير وتبدّلت الظروف وأضحى التلاعب في وضعية البلاد الهشّة إقتصادياً، الطريق الأفضل للعبور نحو تحقيق ذلك
في الأزمة الحالية، يدور الخلاف بين جهتين سياسيتين تتموضعان ضمن وجهتي نظر مختلفتين جاءتا سوياً إلى الحكم من خلال تسوية سياسية شاملة أبرمت عام 2016 على شكل زواج ريعي ـ مصلحي سرعان ما انفض وسقط، ليس نتيجة الخلاف السياسي، إنما حول الرؤى وبقدر الخلاف حول خيارات الدولة. الآن يراهن البعض على محاولة إعادة تشكّل تلك التسوية، إنما وفق آليات مختلفة عن تلك التي سادت عام 2016، لكن من دون جدوى، لكون طبيعة الخلافات التي تسبّبت بانهيار النسخة الأولى لا زالت كما هي، وما اختلفت. ومن الملفت أن القوى القائمة على النظام الحالي هي التي تقود وترعى كل تلك المحاولات.
ثمة من يعتقد أن الوضعية السياسية اللبنانية الهشّة لا تقبل بمنطق غالب ومغلوب، وهذا صحيح، كذلك لا تقبل بتسويات مختلّة التوازن وهذا صحيح أيضاً. في العمق، هذا يعني أن يسهم جميع المتحاربين في الوضعية اللبنانية بنسبة ما من التنازلات المتوازنة لتحفظ حقوق التخريجة التسووية من دون سحق فريق على آخر. في ما هو مقبل على الساحة اللبنانية للخروج من حالة الإستعصاء والجمود السياسي الراهنة، آلية أو قواعد مشابهة تقريباً مع الأخذ بعين الإعتبار قضايا طارئة.
عملياً، الإشتداد السياسي الحالي وتعميقه على النحو الذي نشهده بعدما أضحت الصيغة المعمول بها مصنعاً لإنتاج الأزمات وتعميمها على شكل فراغات دستورية دائمة في الحكم، يولد رغبة في إنتاج تسوية ما، وهو تقريباً ما يلهج بذكره رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط، الذي يعتبر في سرّه، أن البقاء على الإستعصاء ذاته وإطالة أمده في ظل واقع اقتصادي ـ مالي ـ نقدي مرير قد يسفر عن أمر من إثنين: إما حرب أو “فوضى أمنية” لها مفعول الحرب، وفي الحالتين ستتوفر نفس عوامل وأسباب التسوية، فلماذا لا نمضي نحوها بحالة السلم ومن دون تكبد خسائر، على مبدأ المساهمة في دفع الأثمان بالتراضي؟
وأمام الإستعصاء الراهن تولّد شعور بأن الخروج من الدوّامة يقوم بداية على محاولة لقلب الواقع السائد
في المؤسّسات الدستورية الكفيلة بإنتاج النظام، لذلك أخذ الحديث مداه خلال الأيام الماضية في ظل الحديث عن انتخابات نيابية مبكرة مفتعلة من خلال استقالات شاملة تُعيد إنتاج السلطة. لكن المشكلة أنه، وفي عالم السياسة، لا يُمكن إنتاج السلطة بالمفرّق، والقواعد اللبنانية علّمتنا عدم جواز توزيع أو تعميم الخسائر وفق عملية حسابية غير متوازنة، لذا، وإن حل زمان التغييرات فيجب أن يكون شاملاً، بمعنى أن يشمل جميع المؤسسات الدستورية من دون استثناء.
وعليه، وفي حال تقرّر اللجوء إلى خيار الإنتخابات النيابية المبكرة الآن، أي عبر الذهاب إلى هذا المنحى من خلال تعميم استقالات
لكتل نيابية وازنة تفقد المجلس النيابي نصابه، يجب أن يأتي ذلك مصحوباً بانفراجات على شكل استقالات
أيضاً في مؤسسة مجلس الوزراء، بما معناه إعلان رئيس الحكومة المكلّف منذ أكثر من 6 أشهر اعتذاره،
ويأتي ذلك مصحوباً أقله بتقليص ولاية رئيس الجمهورية للحؤول دون الفراغ، إذ يبقى على رأس مهامه
إلى حين إنجاز انتخاب مجلس نواب جديد يتولى عملياً إعادة إنتاج السلطة من رئيس الجمهورية ونزول.
وللحقيقة، هذه المغامرة، وفي تقدير أكثر من طرف، تكاد تكون إنتحارية. فالتلاعب بوضعية مجلس النواب
الذي يمثل عملياً موقع نفوذ القوى الشيعية الرئيسية في السلطة والبلاد، وبحكم قوتها وتأثيرها الآن،
قد يجرّ تلاعباً بوضعية المؤسسات الأخرى، وعلى الأعم الأغلب لن تقبل القوى الشيعية المركزية،
أي “حزب الله” وحركة “أمل”، بأخذ المجلس النيابي قرباناً للصراعات الحالية،
وفي بالها أن أي تلاعب بوضعية المجلس ومن خلاله بالوضعية السياسية العامة،
لن يؤدي إلى تعديل فقط على مستوى التوزيعة واللعبة السياسية الداخلية ومواقع التأثير ومراكز النفوذ،
بل قد يقود إلى ما هو أكبر كإحداث تغيير شامل على مستوى الدولة،
حيث تصبح جميع القضايا الخلافية مطروحة على طاولة البحث، لذلك ثمة من يُحاذر الخوض في هذا المضمار، في ظل حالة انعدام التوازن السائدة،
وان يبقي على تهديداته في إطار الإبتزاز السياسي أملاً في تأمين مكتسبات في الموقع،
ويراهن على محاولة إقناع الطرف الشيعي قبل أي خطوة مفترضة.
الحساسية الشيعية تلك تنسحب على مختلف المواقع الممثّلة طائفياً، وما ينسحب على الموقع الشيعي ينسحب
على الموقع السني والموقع الماروني وهكذا…، بمعنى أن الوضعية اللبنانية تحاذر كسر فريق على حساب آخر خشية
من التلاعب في التوازنات الداخلية الدقيقة والحساسة، وعادة، إن التلاعب بهذه التوازنات يقود إلى حرب أو ما يشبه ذلك،
وعليه يبقى أن الحل الوحيد هو في الحوار والإقناع.
وليس سراً، أن ثمة من ينشط في السر لتسويق تلك الأفكار، بمعنى مقايضة اعتذار رئيس الحكومة المكلّف بتخفيض
ولاية رئيس الجمهورية، أقله حتى الخريف المقبل وانسحاباً صوب تقليص ولاية مجلس النواب بدوره،
على قاعدة تأمين تنازلات متوازنة لإعادة استنهاض السلطة من جديد، وعلى أساس الإنتخابات ونتائجها يتم بناء السلطة.
وللحقيقة، التخريجة أعلاه، نطقَ بها وإلى حدٍ ما النائب جميل السيّد والوزير السابق وئام وهاب،
وليس سراً أن تيار “المستقبل” يميل صوب اقتراح خفض ولاية رئيس الجمهورية،
معتقداً أن ذلك قد يفيده من مشوار تحصيل مكتسبات من السعودية تحديداً، وعلى صعيد حضوره الداخلي ضمن نطاق طائفته.
لكن يبقى أن ثمة قوى غير مقتنعة بأصل قانون الإنتخاب الحالي، وقوى أخرى ترى أن التغيير لا يجب أن ينحصر بالسلطة،
إنما من الضروري أن يشمل تركيبة النظام مكمن العلل، وهذا كله يفتح البلاد على خيارات ليست سهلة لكنها
معقولة في ظل انهيار كامل لا بد من ان يفترض إعادة إعمار شاملة وعلى مختلفة الاصعدة.