اللواء إبراهيم يبق البحصة
المصدر: المدن
في انفجار مرفأ بيروت، كل الطرقات، كل الوثائق، كل المراسلات، تؤدي إلى خلاصة أنّ “دولتي فعلت هذا”. والدولة، أي المسؤولون فيها والمتحكّمون بها، يثبتون هذه القاعدة من خلال تهرّبهم من مواجهة المحقق العدلي في الملف، ومن خلال حماية المدعى عليهم في القضية. قبل الإشارة إلى وثائق جديدة تم الكشف عنها، ثمة ما تغيّر داخل المرفأ.
في مرفأ بيروت، انتهى المعنيون من بناء عنبر شبيه بالعنبر رقم 12. مشهد الدمار لا يزال يسيطر على المرفأ. فيه أحجار مبعثرة ومخلّفات وشظايا. فيه آليات دمّرها التفجير ولا تزال معطّلة ومترنّحة في مكانها. على مقربة مما تبقى من مبنى الإهراءات، وعلى بعد خطوات من الحفرّة التي مدّت البحر إلى داخل المرفأ، يبرز جسم عمراني وحيد. مؤلف من حجر الخفّان، وفيه بوّابة حديدة ضخمة، ومسقوف بالألومنيوم. تماماً كحال عنبر الموت. عمل فريق تقني خلال الأسابيع الماضية على تشييد هذا المجسّم، وكانت الأعمال لا تزال مستمرة فيه حتى الساعات الأخيرة. بديل العنبر رقم 12 بات جاهزاً. بات معدّاً ليشهد عملية “تمثيل ورشة التلحيم” عند بوابته. وللمصادفة، تشييد هذه البوابة تطلّب أيضاً ورشة تلحيم خاصة به. فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، مكلّف بهذه التجربة، حسب ما تؤكد مصادر مطلّعة على التحقيقات.
أمام العنبر المشيّد، وضع الخبراء “جورب ريح” (wind sock) الذي يمكن معاينته في أرض أي مطار حول العالم. وظيفته، تحديد وجهة الهواء وقوّته التقديرية حسب نسبة ارتفاع الكيس الهوائي. يستخدم “الجورب” في المطارات لمساعدة الطيّارين على تحديد كيفية الهبوط بطائراتهم عكس اتجاه الريح. أما في المرفأ، فوظيفته محاولة معرفة اتجاه الرياح لمعرفة سبب اتجاه الدخان المتصاعد بعد الانفجار. وبانتظار تلك التجربة وما ستؤكده وتنفيه على مستوى فرضية التلحيم، تبقى المسارات الأخرى من التحقيق مستمرّة، وأبرزها ادعاء المحقق العدلي في الجريمة، القاضي طارق البيطار، على نواب ووزراء سابقين ورئيس حكومة وضباط أمنيين رفيعين.
على الأرجح كان يتوقّع القاضي طارق البيطار المعاندة السياسية التي ظهرت نهاية الأسبوع الأخير، من خلال ردّ الطلب الموجّه إلى وزارة الداخلية من أجل ملاحقة مدير عام الأمن العام، اللواء عباس إبراهيم، وإرجاء الهيئات النيابية المعنية البت في طلب إسقاط الحصانات عن النواب المدّعى عليهم. البيطار، وعلى ما يؤكد عدد من زوّاره، لم ولن يستسلم. وهو ماضٍ في تحقيقاته حتى النهاية، وفق الأصول القانونية التي يكرّس احترامه لها تمسّكه بالملف. بالنسبة له، الحصانات عن النواب ستسقط بشكل طبيعي بعد أشهر. بحوزته مراسلات ووثائق تؤكد عدم تنفيذ المسؤولين المدعى عليهم المطلوب منهم على مستوى حماية البلد وعاصمته ومواطنيه.
علمت “المدن” أنّ اللواء إبراهيم طلب قبل ساعات لقاء عدد من أهالي ضحايا وشهداء المرفأ. وقد تمّ اللقاء في مكتبه في مقرّ الأمن العام، وكانت رسائل متبادلة، منه وله. مع العلم أنّ إبراهيم كان أول مسؤول أمني لبناني يكشف بعد دقائق من انفجار 4 آب، بأنّ المواد التي انفجرت هي نيترات الأمونيوم، بينما كانت لا تزال نظرية المفرقعات “الساذجة” لا تزال تسيطر على المشهد الإعلامي حينها.
لم يسمع اللواء إبراهيم، في مكتبه، كلاماً معسولاً معتاد على سماعه من قبل زوّاره. سمع مطلب كل الأهالي، وكل اللبنانيين، بمثوله أمام المحقق العدلي في الملف القاضي طارق البيطار. تم التأكيد له على أنه “إن كنت فعلاً بريئاً، أثبت ذلك للقضاء”. وأنه بمثوله، بإمكانه أن يحرج كل المسؤولين والمدعى عليهم في تفجير المرفأ، ويدفعهم للانصياع إلى الجسم القضائي. وفي السياق أيضاً، سمع اللواء إبراهيم مدى الاستفزاز الذي شعر به الأهالي من الحملة الإعلامية التي اجتاحت مختلف المناطق اللبنانية عقب الادعاء عليه. فلا يمكن لهؤلاء الأهالي إلا وأن يشعروا بالإهانة بعد رؤية صور لشخص مدّعى عليه، بغض النظر عن اسمه وموقعه، في جريمة قتل أبنائهم.
أكد اللواء إبراهيم خلال اللقاء على تعهدّه بإزالة اللوحات الإعلانية التي تحمل رسمه واسمه. وأشار إلى أنه غير مسؤول عنها، وأنّ أفراداً قاموا بتمويل هذه الحملة من دون علمه. شدّد إبراهيم على وقوفه إلى جانب الأهالي في مطلب كشف الحقيقة وتحقيق العدالة في جريمة 4 آب. وفي ما يخص مثوله أمام القاضي البيطار، قال إنه سيتّبع الطرق القانونية من خلال توكيل عدد من المحامين للقاء القاضي. وأضاف أنّ المحقق العدلي السابق، القاضي فادي صوّان، سبق واستدعاه كشاهد ودوّن إفادته.
والأهم، أنّ إبراهيم كشف خلال اللقاء عن مظروف يتضمّن وثائق مدمغة بختم سريّ للغاية. ويقول مضمون المظروف، إنّ إبراهيم أرسل كتابات سرية عام 2014 إلى كل من رئيس الجمهورية حينها ميشال سليمان، ورئيس الحكومة تمام سلام، وقيادة الجيش برئاسة العماد جان قهوجي إضافة إلى المخابرات العسكرية. وجاء في نص تلك المراسلات، خطورة أطنان نيترات الأمونيوم الموجودة في مرفأ بيروت. وقد وضع الرؤساء والمعنيين الأمنيين في البلد في تلك الأجواء. وعلى الأغلب، باتت هذه الوثائق بعهدة المحقق العدلي. لكنّ الأخير، وحسب ما هو واضح، يعتبر أنّ علم إبراهيم وغيره من القادة الأمنيين والمسؤولين السياسيين بخطورة النيترات، واكتفائهم بالتحذير منها وعدم تحرّكهم لإزالتها أو معاجلتها تقصير وإهمال موصوفان.
يؤكد كل ذلك، أنّ المسؤولين اللبنانيين فجّروا مرفأ بيروت بشكل أو بآخر. هم يتحمّلون مسؤولية البلد وأمن ناسه. “دولتي فعلت هذا”، عبارة راسخة منذ الساعات الأولى لجريمة 4 آب. المسؤولون اللبنانيون، السابقون والمتعاقبون والحاليون، كانوا يدرون بقنبلة النيترات المزروعة في المرفأ. راسلوا وحذّروا بعضهم من خطورتها. وتركوها موضوعة من دون نزع صاعقها. فانفجرت باللبنانيين وقتلتهم وهجّرتهم ودمّرت عاصمتهم. وكل وثيقة إضافية تزيد من ترسيخ هذه القاعدة.