تفاءل الكثيرون بالمعطيات’…. هل سيتراجع الدولار الى معدل لم يصله منذ شهور طويلة بعد ارتفاعه الجنوني؟!
المصدر: المدن
نشر موقع المدن:
تفاءل اللبنانيون خلال الأيام الماضية ببعض التقارير والدراسات الماليّة، التي حاولت تطبيق نماذج وجداول رياضيّة لاحتساب سعر الصرف المتوقّع، بعد توحيد أسعار الصرف وتعويمها، في إطار خطّة التعافي الماليّة التي ستعتمدها الحكوميّة الجديدة.
تجارب تاريخية
وسبب التفاؤل، كان تراوح سعر الصرف المتوقّع بناءً على هذه الدراسات بين 8000 و10,000 ليرة للدولار الواحد. وهو ما يقل بنسبة كبيرة عن جميع أسعار الصرف الرائجة حاليّاً، سواء في منصّة مصرف لبنان الجديدة، أو في السوق الموازية. أمّا المسألة التي أعطت هذه الدراسات المصداقية والجديّة المطلوبة أمام الرأي العام، فكان صدورها عن كبرى المؤسسات الماليّة المعروفة عالميّاً، كغولدمان ساكس وسيتي بنك.
من دون شك، تشير التجارب التاريخيّة والنظريات الاقتصاديّة إلى أن مسارات التصحيح النقدي، وخصوصاً تلك التي تشمل رفع الدعم وتوحيد أسعار الصرف واستعادة انتظام القطاع المالي، غالباً ما تترافق مع استقرار تدريجي في سعر الصرف العائم والموحّد، بالإضافة إلى انخفاضه إلى مستويات معقولة، حسب موازين العرض والطلب. وهذا بالتحديد ما تراهن عليه هذه الدراسات وتبني على أساسه فرضياتها.
لكنّ هذا النوع من المسارات، يستلزم تحقيق خطوات عمليّة وملموسة في المجالين المالي والنقدي، كما يحتاج إلى قيادة سياسيّة جريئة، وقادرة على فرض هذا النوع من الخطوات الإصلاحيّ.، وهذا ما تؤكّده أساساً الفرضيات التي اعتمدتها دراسات سيتي بنك وغولدمان ساكس. وفي حالة لبنان، وبالنظر إلى نوعيّة الإجراءات المطلوبة لتحقيق هذا الأمر، لا يبدو أن خلق استقرار نقدي، وفق سعر صرف عائم ومنخفض، سيكون مسألة قابلة للتحقيق في القريب العاجل. لا بل من الواضح أن ثمّة طريقاً شاقاً يُفترض أن تعبره البلاد، ولمدة زمنيّة طويلة، قبل الوصول إلى هذه المرحلة. لهذا السبب: لا يمكن البناء على هذه الداراسات للتفاؤل بالوصول إلى سعر الصرف هذا في المدى المنظور.
فرضيات الدراسات والطريق الشاق
قبل تسويق الدراسات التي بشّرت بانخفاض سعر الصرف إلى حدود 10,000 ليرة للدولار كما توقّع سيتي بنك، أو 8,000 ليرة للدولار كما توقّع غولدمان ساكس، لا بد من الوقوف عند الفرضيات التي اعتمدتها هذه الدراسات. فهذه التوقّعات المتفائلة، مربوطة بإمكانيّة تحقق هذه الفرضيات، التي يمكن على أساسها أن يستقر سعر الصرف الموحّد عند هذا الحد، وبشكل عائم. وطالما أنّ هذه الفرضيات لم تتحقق بعد، فلا يمكن توقّع الوصول إلى النتيجة التي تتحدّث عنها هذه التقرير في ما يخص سعر صرف الليرة اللبنانيّة على المدى المتوسّط.
في حالة سيتي بنك، اعتمدت الدراسة الفرضيّات التالية
أن تتمكّن الحكومة من إنجاز خطّة تعافٍ ماليّة جديدة، لتفاوض على أساسها الدائنين والمصارف وصندوق النقد.
أن يتم التفاهم مع صندوق النقد على رزمة قروض إنقاذيّة، لتعزيز الاحتياطات الموجودة لدى مصرف لبنان.
– إنجاز إعادة هيكلة شاملة للدين السيادي، تشمل اقتصاصاً قاسياً بنسبة 70% من قيمة السندات.
– إعادة هيكلة القطاع المصرفي بشكل شامل، مع إجراءات تشمل الاقتصاص من قيمة مساهمات أصحاب المصارف، وتحويل نسبة من الودائع الكبيرة إلى أسهم، للتعامل مع خسائر القطاع المتراكمة.
– التمكّن من إطلاق نظام قطع جديد.
في هذه الحالة، وبعد معالجة خسائر القطاع المالي، واستعادة قدرته على استقطاب السيولة بالعملات الأجنبيّة من الخارج، وبعد معالجة كتلة الدين العام المتضخّمة المرتبطة بأزمة القطاع المالي، يمكن تدريجيّاً التأسيس لنظام قطع عائم ومستقر وفق الحسابات التي قام بها سيتي بنك.
مع الإشارة إلى أن سعر الصرف الذي خلصت إليه الدراسة، اعتمد على احتساب قيمة الاحتياطات المتبقية في مصرف لبنان، بعد الحصول على قرض صندوق النقد، وبالمقارنة مع حجم السيولة المتوفّرة بالليرة اللبنانيّة في الأسواق، وبعد تقدير حجم التزامات القطاع المصرفي بالدولار، التي ستتبقّى بعد إعادة هيكلة القطاع. بمعنى آخر، فسعر الصرف المتوقّع لن يتحقق فعليّاً قبل نهاية هذا المسار الطويل والشاق، والوصول إلى الأرقام التي تتحدّث عنها الدراسة.
أما دراسة غولدمان ساكس فاعتمدت مقاربات وفرضيات شبيهة جدّاً بدراسة سيتي بنك، لكنها كانت أكثر صراحة في تحديد العقبات التي ستواجه هذا المسار بأسره. هذه العقبات، تبدأ بصعوبة التوصّل إلى تفاهم بين صندوق النقد الدولي من جهة، والحكومة التي ستحاول التوفيق بين مصالح شركائها المتناقضة والمتضاربة، والتي ستسعى حكماً إلى تأجيل التعامل مع بعض شروط الصندوق التي تتضارب مع مصالح أقطابها. وبالإضافة إلى كل هذه العوائق، سيكون على الحكومة تحديد خسائر النظام المالي بشكل واضح وصريح، والوصول إلى نسبة اقتصاص قد تصل إلى حدود 75% من قيمة سندات اليوروبوند، وهي نسبة تفوق القيمة التي قدّرها مصرف لبنان عند حدود 45%.
وبذلك، تؤكّد دراسة غولدمان ساكس نفسها أن ثمة إشكاليات لا تنتهي لا بد أن تتعامل الحكومة معها، قبل المضي قدماً في مسار معالجة الخسائر والتعامل معها، ومن ثم التمكّن من تعويم سعر الصرف الموحّد وبشكل مستقر على المدى الطويل. ولهذا السبب، لا يمكن الإشارة إلى سعر الصرف الذي تم الحديث عنه في الدراسة، أي 8000 ليرة للدولار الواحد، من دون الإشارة لكل هذه الفرضيّات والتحديات التي تحول دون تحقيقها خلال مدّة قصيرة أو حتّى متوسّطة الأجل.
لا انفراج قريباً
لتحقيق ما تتحدث عنه الدراستان من فرضيات، لا بد من بدء المسار الطويل بالمحادثات مع صندوق النقد، التي يُفترض أن تؤسس لتفاهم مبدئي يمكن على أساسه التفاوض بالتوازي مع الدائنين المحليين والأجانب لإعادة هيكلة الدين العام. لكنّ مفاوضات صندوق النقد، وكما هو معلوم، ستمر بسلسلة طويلة من الجلسات الموزّعة حسب مواضيع محددة، والتي يصعب إنجازها قبل مطلع العام المقبل. وحتّى بعد إنجاز هذا التفاهم، من المستبعد –كما هو معروف من سياسة الصندوق- أن يسير الصندوق بأي اتفاق رسمي على أعتاب الانتخابات النيابيّة. فحسب آليّات عمل الصندوق، من غير المحبّذ أن يتم انجاز أي تفاهمات بشكل نهائي مع دولة ما، قبيل استحقاقات دستوريّة أساسيّة يمكن –ولو نظريّاً- أن تغيّر طبيعة الممسكين بالقرار السياسي والاقتصادي، وأن تغيّر بالتالي من توجهات هذه الدولة وسياساتها العامّة.
في كل الحالات، وبالتوازي مع مسار المفاوضات مع الصندوق، سيكون على الحكومة أن تعمل على تعديل خطتها الماليّة، وهذا سيستلزم عمليّة تفاوض شاقّة وصعبة مع القطاع المصرفي الذي تتناقض أولوياته بشكل جذري مع شروط الصندوق ومقاربته. وفي الوقت نفسه، سيكون على وزارة الماليّة التوصّل على تفاهم مع الدائنين الأجانب، والدخول في معمعة الحصول على الأصوات المطلوبة من حملة السندات لتمرير هذا التفاهم، أو تعديل شروط التفاهم مراراً وتكراراً حتّى الحصول على نسبة الأصوات المطلوبة.
وبعد المرور بكل هذه المراحل، سيكون على البلاد أن تمر بمرحلة طويلة من العمليّات الإجرائيّة لتنفيذ كل ما تم التوصّل إليه من تفاهمات: عبر إعادة هيكلة الدين العام وإصدار السندات الجديدة، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، مع كل ما سيرافق ذلك من إجراءات بحق الرساميل والودائع الكبيرة، بالإضافة إلى أي خطوات استراتيجيّة تتعلّق بقطاعات اقتصاديّة رئيسيّة كالكهرباء. مع الإشارة إلى أن وضعيّة هذا القطاع بالتحديد ستكون على طاولة المفاوضات مع الصندوق، وتحديداً بسبب النسبة التي يستنزفها هذا القطاع من ميزانية الدولة.
تضارب المصالح
وفي النهاية، سيكون على مصرف لبنان إنجاح نظام نقدي جديد مع أداة تداول بالعملات الأجنبيّة، لتكوّن سعر صرف عائم ومستقر. وعلى هذه الأداة، وبخلاف منصّته المعتمدة حاليّاً، أن تتمكن من استيعاب عمليات العرض والطلب في السوق، لا أن تكون مجرّد وسيلة لبيع الدولارات للمستوردين كما يجري اليوم. وإنجاح النظام النقدي الجديد، سيتعمد حكماً على نجاح كل ما سبق من خطوات: من ناحية قدرة النظام المصرفي على جذب الدولارات من الخارج من جديد، والتخلّص من الفجوات الكبير في ميزانيات القطاع المالي، وصولاً إلى استعادة الانتظام في ميزانيّة الدولة وقدرتها على سداد الديون.
لكل هذه الأسباب، من غير المتوقّع أن تحصل انفراجة سعر الصرف التي تتحدّث عنها التقارير الماليّة قبل النصف الثاني من العام المقبل، هذا إذا لم تتعرّض خطة الحكومة لأي عرقلة أو تشويش خلال تطبيقها، أو خلال التفاوض عليها مع الصندوق والدائنين والمصارف. أما الإشكاليّة الأكبر، فهي حاجة هذا النوع من الخطط الشاملة والقاسية لقيادة سياسيّة قويّة، قادرة على فرض الإجراءات القاسية، وخصوصاً تلك التي تُعنى بتحديد الخسائر في القطاع المالي ومعالجتها جذرياً، بينما لا يبدو أن تركيبة السلطة الهشّة اليوم قادرة على تحقيق هذا الأمر. أما ما سيعقّد الموضوع أكثر، فهو ترابط المصالح الوثيق ما بين مصالح النخبة الماليّة والسلطة السياسيّة، وهو ما سيفاقم من تعقيدات المشهد.