اخبار محلية

كرابيج من ضفائِر نسائِنا

“ليبانون ديبايت”- روني ألفا

لا خبزَ لنا نحن المواطِنين الذينَ نعلّقُ شهاداتِنا في البيوت. بِتنا نستَحي بها. مكانُها في حمّامات الضيوف. باتَت تتساوى قيمةً مع ما يتركُه ضيوفُنا في هذه الأمكنة الحميمة حيث تُقضَى الحاجة.

لبنان بكل بساطة صار ملكيةً حصريةً للزعران. قطّاعُ طرقِنا أيام الحرب صاروا زعماءنا. ما زلنا عبيداً لنظام وضعوه لنهشِنا. قصّابون وجزّارون كان الأجدرُ بهم فتح ملاحِم لِلَحم الضّان. نحن لحومُهم الطازجة يأكلون منها كل يوم منذ ثلاثين سنة. يشحذون سكاكينَهم من عِظامِنا ويبيعونَها في سوق السلطة. كراسيهُم مصنوعَةٌ من أرجُلِنا المتعَبَة من الدّوسِ على المجامِر. قشَّشوها من رفاتِنا. مع لبنان على هذه الشاكِلَة سنبقى جثثاً راجِلَة نسِيَ العالَم إقامة مراسِم دفننا. ذكرُنا مؤبّدٌ في العبوديّة والسكوت.

أكثَر من خمسين بالمئة من أطبائنا يعملون في مستشفيات العالم. نِسَب متشابِهة من المهندسين والعلماء ينتشرون في مختبرات أميركا وأوروبا وأكثر من ستّين بالمئة من طلابنا الذين يتابعون دراساتِهم في الخارج يستقرّون في بلاد الإستِضافة.

صحّتُنا معتلَّة. أموالُنا تبخّرَت. شوارعُنا أظلَمَتْ شأنها شأن بيوتِنا. دولتُنا عجوزٌ شمطاء.

أُدخلوا إلى أي إدارةٍ رسميَّة. ملفّاتُنا مكدّسَة في الأروقة يأكلُها العِثّ وتفوحُ منها النتانة والعَفن.

أَسألُ ماذا بقيَ من لبنان سوى صوت فيروز ووديع الصافي؟ لا شيء. لا شيء سوى التغنّي

أنه ذُكرَ مئات المرّات في الكتاب المقدّس. حتّى ثلوجُ القرنة السوداء ذابَت بعد أن قرِفَتْ من مكبّات النفايات.

تلوَّثَ هواؤنا بنسبة خمسين بالمئة بعد انفجار بيروت. لم نحصد سوى المناكفات بين القضاء والسياسة.

لم نعرف بعد سنة ونصف السنة تقريباً مَن أدخلَ النيترات إلى المرفأ. غداً ربّما سيقولون

لنا أن أبو ملحم أدخَلَها بتواطئٍ من زوجته إم ملحِم وسيُحاكمان غيابيّاً.

هذا اللبنان لم نَعُد نريدُه. فَلنبحثْ عن وطن آخَر. نحن مواطنون

بلا وطن ورعايا عُراةٌ نُمسكُ بِريش نَعام. يُمنةً ويُسرَةً نهّوي بها

بلا كَلل ليبَورِدَ السلاطين والطغاة الذين يجلسون سُعداء في قصورهم المنيفة.

نحن بدوٌ رُحَّلٌ في صحراء قائظة نائية إسمها لبنان. عبوديّتُنا بملء إرادَتِنا.

نعمل في منازلَ أثرياءٍ عَجزة. نقوم بالأعمال المنزليَّة ونشاهدُ تمتّعَ هؤلاء

باحتساء المشروبات الفاخرة فيما المياه مقطوعة من بيوتنا الفقيرة.

لدينا لون البشرة الداكنة نفسَها التي دَرَجتْ عليها ألوانُ جُلودِ العبيد في القرون الوسطى.

يزجُرنا حاملو كؤوس الكريستال مِن على أرائكهم مُلوِّحين بالكرباج.

كرابيجٌ صُنِعَت من ضفائِر شَعرِ زوجاتِنا وبناتِنا. سيعلّمُ فينا السّوط حتّى يموتَ أصحابُ القصور.

هذا اللبنان لم يعلّمْنا إلا العبوديَّة. عَلَّمنا أهلُنا أنَّ العلمَ يعتقُنا فإذا به يزيدُنا عبوديَّة.

فَوكِسوا على أي وظيفة في الدولة. لا مباراة ولا مجلس خدمة مدنية ولا بلّوط. إتَّكِلْ وكُن طائفيّاً وأعبُد رئيسَك تَنَل أي وظيفة تريد.

نعيشُ فوق متفجّرة. تفقَعُ بِنا كلَّ عشرين أو ثلاثين سنة. تحوّلُنا إلى أشلاء مواطنين.

تذكِّرُنا بين حربٍ وحرب أننا لا نعيشُ في وطننا بل ننجو منه.

ثوراتُنا حجارةٌ من غُبار ومولوتوفُنا مُستحضرٌ من ماء الورد والمياه المبتذلة.

كِبريتُه لا يقدَح. حتّى تاريخُنا توافقيٌّ على ما أشار كمال الصليبي

تماماً مثل أكذوبة الديمقراطيّة التوافقيَّة التي تضمُّ المعارضة والموالاة على طاولة واحدة.

كل من استوطنَ بلدَنا عبر التاريخ لم يجد مبرراً ليُخاطرَ بالقتال لأجله. لم يجد فيه – على ما كتب المؤرخ إسكندر الرياشي-

” سوى جبال ليس فيها مراعٍ لغيرِ الماعز وليس فيه قطعانٌ غير الدببة والذئاب ولا مغاورَ فيه

جديرة بالجيولوجيا لأنها كانت محتلَّةً من قُطّاع الطُّرق الذين لا يعرفون شريعةً ولا شفقة “.

هذا اللبنان بسحنتِه المتهالكة لا نريدُه. هاتونا بلبنانَ العابرِ للطوائف والقاتلِ لذريَّة السَّلاطين

الذين يشربون الشاي ويشيرون إلينا بالإصبع لنتابِع تهوئةَ مزاجِهم وقيلولَتِهم.

فلنقتُلْ هذا اللبنان ولنبتدع من رَحمِه جَنيناً وطنياً جديراً بأحلامنا المُجهضَة يستحقُّ أن يكون لنا وطناً.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com