اقتصاد

سباق الرواتب والجوع..

المصدر: القناة 23

يتألّف مجتمع القوى العاملة في لبنان من حوالي تسعمائة ألف عامل في القطاعين العام والخاص، منهم ستمائة ألف تقريباً في القطاع الخاص (منهم 450,000 مسجّلين لدى الضمان الإجتماعي و 330,000 مسجّلين لدى وزارة المالية)، والباقي موزّع على مختلف القطاعات العامة، وهم ينقسمون على الشكل التالي:https://if-cdn.com/RMugaqf

كما تجدر الإشارة إلى أن حوالي 14% من العاملين في الإدراة العامة، والذين يشكلون حوالي 2% من مجمل اليد العاملة في لبنان يمارسون العمل بطريقة غير قانونية، أي من خلال التعيين السياسي وخارج إطار مجلس الخدمة المدنية (توزيع العاملين في الإدارة العامة مدرج في الجدول أدناه). كما تجدر الإشارة إلى وجود حوالي 120,000 متقاعد من القطاع العام أغلبهم من القوى العسكرية والأمنية والتعليمية.https://if-cdn.com/wlEjWRA

المصدر: مجلس الخدمة المدنية

إن الأغلبية الساحقة من القوى العاملة في القطاعين العام والخاص في لبنان قد أصبحت ضمن فئة الفقراء، ويمكن الجذم أن بعضهم قد دخل دائرة الجوع، في ظل تصحيح بسيط للأجور في القطاع الخاص لا يتناسب إطلاقاً من تدهور سعر الصرف والغلاء الفاحش للأسعار الذي رافقه، لا سيما أن المحروقات والغاز ومعظم المواد الأوّلية والإستهلاكية هي مستوردة من الخارج. لقد سعت العديد من الشركات والمؤسسات الخاصة إلى تعديل قيمة رواتب العاملين لديها، وقد أعلن ذلك العديد من المسؤولين في القطاع الخاص، لا سيما تصريح الوزير السابق السيد شقير على قناة MTV  اللبنانية في إطار برنامج “صار الوقت” في 18/11/2021 الذي أعلن فيه أن القطاع الخاص قد عدّل منفرداً الحدّ الأدنى لأجور عماله ومستخدميه وأصبح مليوني ليرة بدلاً من 675,000 وأن تلك الزيادة قد طُبّقت فعلاً في العديد من الشركات والمؤسسات.

إلاّ أنّ هذه الزيادة بدت جداً هزيلة عندما قورنت بالزيادة الكبيرة جداً التي طالت السلع الأساسية والإستهلاكية والمحروقات وغيرها والتي ارتفع ثمن معظمها 12 ضعفاً، ويعبّر الشكل التالي عن الفرق بين الزيادة التي لحقت على الحد الأدنى للأجور والزيادة التي لحقت على أسعار السلع:https://if-cdn.com/HbeCsBS

إنّ الزيادة على أسعار البضائع والسلع أمر طبيعي بسبب ارتباط الأسعار بشكل عضوي مع سعر صرف العملة الوطنية، كون الأكثرية الساحقة من هذه البضائع والسلع مستوردة من الخارج، ويدفع ثمنها بالعملات الصعبة، لا سيما الدولار الأمريكي. هذه الزيادة التي بلغت حوالي 12 ضعفاً، لم تقابلها في القطاع الخاص سوى زيادة بلغت حوالي الضعفين. (لا بد من الإشارة إلى أن العديد من شركات القطاع الخاص قدّمت زيادات أقل من ذلك، كما بادرت بعض الشركات إلى تقديم زيادات مقبولة حيث حوّلت بعض الرواتب أو أجزاء منها الى الدولار، واعتمد البعض الآخر توليفات بين السعر الرسمي وسعر المنصّة ودولار السوق).

 أمّا المشكلة الأكبر فهي تلك التي أصابت موظفي القطاع العام من عسكريين ومعلمين وقضاة وموظفي ومستخدمي الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات، والتي تمثّلت بعدم تقديم الدولة أي زيادة لموظفيها خلال عهد حكومة دياب المشؤومة، بالرغم من انهيار القدرة الشرائية بالكامل. هذا الإنهيار في القدرة الشرائية الذي وصل إلى 97% كما ذكرت رابطة موظفي الإدارة العامة في بيانها الأخير، أو 93% كما ذكر البروفسور عجاقة لإذاعة البشائر في 23/11/2021. أمّا الحكومة الحالية، والتي عكفت على دراسة الأوضاع المعيشيّة الصعبة، وحاولت من اليوم الأول مقاربة الحلول الممكنة من خلال سلاسل من الإجتماعات، فقد اكتفت بإقرار ما سمّتها مساعدة اجتماعية عبارة عن نصف راتب، وعدت بتقديمها عن شهريّ تشرين الثاني وكانون الأول، هذه المساعدة تشكّل نسبة 1/24 من متوسّط الزيادة على الأسعار، وهو ما يظهر في الجدول أدناه:https://if-cdn.com/rjGormY

إنّ الرسم البياني أعلاه يُظهر هزالة ما طرحته الحكومة، وهو ما أدّى إلى غضب عارم اجتاح معظم موظفي الإدارة العامة، ما أدّى إلى إعلان الإضراب المفتوح في كافة الوزارات والإدارات العامة اعتباراً من صباح يوم الثلاثاء في 23/11/2021.

يبدو من الأرقام أعلاه أن السلطة السياسية التي تسبّبت بالإنهيارات النقدية والمالية والاقتصادية،

بسبب فشلها ومحاصصاتها، تحاول اليوم أن تدمّر الجيش والقوى الأمنية والقضاء والجامعة اللبنانية

والمدارس الرسمية والوزارات والإدارات والمؤسسات العامة والبلديات، من خلال إفقار العاملين

فيها إلى درجة ترغمهم فيها على ترك الوظيفة العامة أو حتى الهروب منها،

وهو ما أظهرته أرقام الهاربين من الأجهزة العسكرية والأمنية الذين تجاوز عددهم 5,000 في فترة قصيرة،

هذا التدمير الممنهج لدولة الرعاية الإجتماعية يصب في مصلحة أصحاب الرساميل

الذين يتطلّعون إلى خصخصة القطاع العام، والتعاقد الوظيفي،

واستعباد الناس، بما ينسجم مع رؤية اقتصادية دمّرت اقتصاديات العديد من الدول النامية

كما لا بد من الإشارة إلى أن حديث بعض المسؤولين عن إمكانية زيادة الرسوم

الجمركية والضريبة على القيمة المضافة في المستقبل القريب، مع بقاء الأوضاع

المعيشية على حالها، ومع غياب أي تصحيح جدّي للرواتب والأجور، ستكون بمثابة

إطلاق النار على رؤوس العمّال والموظفين وعائلاتهم في القطاعين العام والخاص،

كونها ستؤدّي حتماً إلى موجة غلاء جديدة تأكل ما تبقّى من قدرة شرائية للمواطنين.

ويبقى الحلّ هو الحلّ الجذري المتكامل الذي يجب أن يبدأ بإطلاق عجلة الإقتصاد،

من خلال تشجيع الإستثمارات في القطاعين الصناعي والزراعي، وقبلها تفعيل القطاع السياحي

بكل الوسائل الممكنة من خلال تقليص التوتر السياسي وإطلاق عمل الدولة ورسم خطة

محكمة لتطوير وتنظيم هذا القطاع، لأن عملية استعادة القطاع السياحي عافيته

وعودته إلى سابق عهده، هي في المتناول ويمكن تحقيقها بسرعة، كون البنية التحتية السياحية موجودة.

ذلك يجب أن يترافق مع إنشاء شبكة نقل عام شاملة، وإيجاد حلّ فوري لقطاع الكهرباء،

فالدولة والقطاع الخاص مكبّلان بعدم القدرة على تقديم زيادة عادلة على الرواتب والأجور،

لأن التمويل غير متوفّر، ولأن أي ضخ جديد للأموال في السوق سيؤدّي حتماً إلى المزيد

من الإرتفاع في أسعار السلع، ما يدخلنا في دوّامة لا تنتهي، أو في ما يشبه السباق

بين الراتب والجوع، لا نقطة وصول فيه. وعليه يتوجّب تقديم ما يمكن تقديمة،

وتوفير ما يمكن توفيرة من الخدمات العامة بسعر الكلفة، لا سيما في قطاعي النقل

والكهرباء، كخطوة أولى صحيحة على طريق الإصلاح، وذلك من خلال خطة إقتصادية

شاملة طويلة الأجل، تُمكّن من رسم إطار خطّة مالية لفترة لا تقلّ عن 5 سنوات، يتبعها موازنة متوسّطة الأجل لفترة 4 سنوات

وعليه، يجب التركيز على زيادة الإنتاج المحلّي، وتفعيل السياحة، بهدف تدفّق العملات

الصعبة إلى لبنان من خلال زيادة الصادرات وتخفيض الإستيراد وزيادة عدد السيّاح

الوافدين وتشجيع المغتربين على الإنفاق الإستثماري في لبنان على القطاعات الصناعية والزراعية والخدماتية،

كل ذلك يحتاج إلى سلطة سياسية نظيفة الكف، تتمتّع بالكفاءة والنزاهة والوطنية،

علّ الإنتخابات النيابية القادمة تكون الخطوة الأولى بهذا الإتجاه.

وأخيراً، وقبل أن يتحقق الحلم بتشكيل سلطة سياسية على قدر طموح الشعب اللبناني،

يبقى على الحكومة الحالية أن تكون أكثر جدّية في معالجة مشكلة الفقر الحقيقي الذي

دخل بيوت معظم الناس، وتقوم بتصحيح جدّي للرواتب يسبق الجوع الذي يدقّ الأبواب،

كي لا تفلت زمام الأمور، وكي لا ندخل في فوضى عارمة قد تشكل خطراً على السلم الأهلي.

فحذار اللجوء إلى المزيد من التسويف والمماطلة وتضييع الوقت.

النقابي الدكتور وليد وهيب الشعّار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى