الأزمة “تُشلّح” اللبنانيّين سلاحهم الأقوى
بقلم خالد ابو شقرا – نداء الوطن
محاولات بعض المواطنين اليومية اختراق “جبهة” الأزمة المتقدمة وانتشال رغيف خبز أو حبة دواء، تخفي وراءها معركة أشد شراسة مع التداعيات السلبية البعيدة المدى لعدو لا يعرف الرحمة. فاللبنانيون سيصبحون بعد عدد من السنوات على مجتمع هرم، متراجع الكفاءة، لا يملك المقدرة على رفع ناتجه الوطني كمّاً ونوعاً حتى لو أراد.
تشير أرقام الدولية للمعلومات أن معدل الزواج تراجع في العام 2020 بنسبة تقارب 18 في المئة بالمقارنة بمتوسط الأعوام بين 2015 – 2019. في المقابل، تراجع عدد الولادات في العام الماضي بنسبة 16.2 في المئة. أما بالنسبة لهذا العام فمن المتوقع أن تكون الأعداد قد تضاعفت. وإذا ما أضفنا إلى هذه المعدلات أرقام اللبنانيين الذي هاجروا أو سافروا للعمل في الخارج، والتي وصلت في الأشهر الأربعة الأولى فقط من هذا العام إلى حوالى 230 ألف مغادر، وإضافة أولئك الذين يتحينون الفرصة لمغادرة لبنان، يمكن الاستنتاج أن البلد سيفرغ بعد سنوات قليلة من طاقاته الشبابية ومن القوى العاملة في عمر الانتاج.
يفترض الإقدام على الزواج تأمين سكن لائق. و”هذا ما لم يعد بالإمكان توفيره منذ العام 2018، عندما أقدم مصرف لبنان على وقف القروض”، يقول المدير العام للمؤسسة العامة للإسكان روني لحود. و”مع توقف القروض تراجعت عمليات الشراء وتعطلت دورة التطوير العقاري، وأصاب الشلل أكثر من 65 مصلحة ومهنة ترافق هذه العملية”. وعندها تحقق الهدف بتعطيل البلد، حيث يجزم لحود أن “جزءاً كبيراً مما نعانيه اليوم يعود إلى القرار الذي اتخذ في ذلك الوقت”.
عدد القروض السكنية تراجع بشكل دراماتيكي من حوالى 5 آلاف قرض في السنة إلى ما يقارب 1300 قرض في العام 2018، ليضمحل كلياً في العامين 2020 و2021. وبحسب لحود “فلنجد أولاً من يقبل بيع شقته بشيك مسحوب بالليرة اللبنانية قبل أن نتحدث عن واقع القروض السكنية”. بإشارة منه إلى أنه لا أحد يقبل بالليرة، عملة الاقراض الرسمية للمؤسسة، لبيع العقار الذي يملكه. وعدا عن توقف المصارف عن إعطاء التسهيلات الائتمانية فان السقف المحدد للقروض الإسكانية بـ 270 مليون ليرة، تراجع بالعملة الأجنبية من 180 ألف دولار قبل العام 2019 إلى حوالى 10 آلاف دولار اليوم. ما يعني أن الحد الاقصى للقرض لم يعد يشتري نصف غرفة.
أمام هذا الواقع الذي أقفل الباب على إمكانية تملك الطبقة الفقيرة لمسكن لها، وضعت مؤسسة الإسكان خطة إسكانية بديلة تتضمن الايجار والايجار التملكي… وكل ما يتعلق بحق السكن. إنما إبصارها النور يتطلب إقرارها والبت بها في مجلس الوزراء. وطالما لا اجتماع للحكومة ولا توافق بين أركانها، فان الخطة ستبقى حبراً على ورق. وعليه لن يكون بامكان السواد الأعظم من اللبنانيين تأمين شقة للسكن. مع العلم أن الايجارات أصبحت تُطلب بالعملة الصعبة، أو ما يوازيها على سعر صرف مخترع لكل حال بحالتها. وفي جميع الاحوال، فان الايجارات تتجاوز متوسط الدخل الفردي لمعظم اللبنانيين العاملين في القطاعين العام والخاص.
التسليم جدلاً بوجود شقة جرى شراؤها قبل الأزمة، يضعنا أمام عقبة لا تقل أهمية
في ما بعد، وهي كيفية تأمين مستلزمات الطفل المنوي إنجابه. فالكلفة الشهرية لطفل حديث الولادة
حتى عمر سنة تصل إلى 3 ملايين ليرة شهرياً بين حليب وحفاضات وزيارات لعيادة الطبيب وتلقيح وثياب ومغذيات.
وبحسب الدكتورة الصيدلانية منار أنيس موسى فان “أسعار هذه المتطلبات أصبحت تفوق قدرة 80 في المئة من العائلات في لبنان”. فعلبة الحليب زنة 400 غرام من عمر يوم إلى 6 أشهر ارتفع من 12 ألف ليرة إلى 94 ألف ليرة.
أما الحليب المخصص لحالات الإرتجاع (AR) فقد ارتفع سعره من 13 ألف ليرة إلى 104 آلاف ليرة. في حين ارتفع سعر حليب الحساسية ALLERNOVA من 40 ألف ليرة إلى 580 ألف ليرة. الصدمة أن “المولود الجديد يتطلب علبة حليب كل يومين
ونصف تقريباً” بحسب موسى. “أي أن كلفة الحليب العادي الشهرية تصل إلى 1.2 مليون ليرة،
فيما تبلغ كلفة الحليب المخصص لحالات معينة 7 ملايين ليرة”.
أما الحفاضات فقد ارتفع سعرها من 17 ألف ليرة إلى 140 ألف ليرة. وبالنسبة إلى المأكولات المخصصة فقد ارتفع سعر العلبة من 21 ألف ليرة إلى 60 ألف ليرة. كذلك الأمر بالنسبة إلى الرضاعات وبقية المستلزمات من سائل الاستحمام والمحارم المعقمة… وغيرها الكثير من المتطلبات فان الشركات ترفع أسعارها بشكل دوري بين 20 و30 في المئة كل بضعة أيام.
بالاضافة إلى مخاطر التأخر في الزواج والإحجام عن الإنجاب، فان التحدي الحقيقي
الذي يواجه مستقبل الاقتصاد اللبناني يتمثل في “إعادة انتاج الموارد البشرية”،
برأي الخبير الاقتصادي د. بيار خوري. فـ”هذا المؤشر له بعد أعمق من الهرم العمري،
ويتصل بتكوين الكفاءة. وقد بدأت تظهر انعكاسات الأزمة في العامين المنصرمين
على تراجع مستويات التعليم. وهي تهدد بشكل متصاعد بتزايد أعداد غير الملتحقين بالمدارس،
وارتفاع نسب الأطفال العاملين، ودخول أعداد أكبر في المستقبل من منخفضي الكفاءة
إلى التعليم الجامعي، وفقدان الشباب الثقة بأهمية تطوير كفاءاتهم والبحث عن مصادر آنية للدخل
تسد حاجاتهم”. وبرأي خوري “إذا جمعنا هذه العوامل الآخذة في التفشي مع تراجع معدل الولادات الجدد،
وهجرة أصحاب الاختصاص من ذوي الكفاءات المكتملة، وخسارة الشباب الذين ما زالوا في طور
تكوين مهارات خاصة في الخارج…
لوجدنا أنفسنا أمام معضلة حقيقية وخطر أساسي على إعادة تكوين الهيكل الاجتماعي،
وليس فقط الهيكل العمري. والذي تقع في صلبه الموارد البشرية القائمة على عنصر الشباب.
فهي تتعرض من وجهة نظر خوري من أكثر من اتجاه إلى صدمات قوية بسبب تراكم الأزمات،
من كورونا والانهيار الاقتصادي والنقدي، وغياب الأفق الايجابي”
وبرأيه “لو كان هناك أفق لكنا حافظنا على ما هو موجود من مواردنا وكفاءاتنا بانتظار تغيّر الظروف
نحو الأفضل. إنما في الحقيقة كل ما يجري هو خطة تهدف إلى التفريط بالشباب
من ناحية العلم والهيكل الاجتماعي والاستقطاب للداخل. من غير أن نستبعد أن تكون هذه الخطة
من ضمن استراتيجية السلطة لتشجيع هجرة الشباب للعمل في الخارج وتحويل الاموال إلى الداخل،
بدلاً من الاحتجاج والنزول إلى الشوارع والتظاهر في وجهها والاعتراض على سلوكها.
أما الثمن على المدى البعيد فغالٍ جداً”، برأي خوري، “إذ إننا نختار راحة بال السلطة
السياسية على المدى القصير على حساب إعادة تكوين لبنان على المدى البعيد”.
الثابت شبه الوحيد الذي تمتع به لبنان على مدى كل الأزمات التي عصفت به كان قوة العنصر البشري.
وهو الأمر الذي بدأنا بفقدانه اليوم. فهذا الانسان المرن الذي لا تحده العوائق ولا تحبطه الظروف
، المتسلح بعلومه وكفاءاته، يخسره لبنان تدريجياً إما بالخروج من البلد أو بالاحجام
عن الزواج والانجاب. وفي الحالتين فان الاقتصاد سيخسر قوة عاملة أساسية في المستقبل من الصعب تعويضها.