اخبار محلية

ما سرّ صمود رياض سلامة؟

“درج”

التحقيقات الجدية في موضوع إفلاس لبنان تجرى خارج الحدود والتدخلات السياسية في القضاء اللبناني، مثلت خط الدفاع الأول عن الطبقة السياسية الفاسدة التي يبدو أن سلامة هو صمّام أمانها.

ما سرّ صمود رياض سلامة في منصبه حاكماً للمصرف المركزي في دولة تشهد أكبر انهيار مالي ومصرفي في التاريخ؟ الرجل أقوى من أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله، فالأخير لا يملك خصوماً لبنانيين لهم من القوة ما لدى “خصوم” سلامة من القوة! وهو صامد لوحده، بينما لدى نصرالله من الحمايات المحلية والإقليمية والدولية ما يوفر له صموداً إلى ما شاء الله. اذاً ما سر صمود رياض سلامة، على رغم هذه الفضائح كلها؟

ونحن في “درج” لنا قصتنا مع رياض سلامة، ذاك أننا في مطلع عام 2020 زارتنا في مكتبنا الزميلة ديما صادق وأحضرت معها ملفاً حصلت عليه يتضمن وثائق عن تحويلات مالية أجراها الحاكم وشقيقه ومساعدته، تبلغ قيمتها أكثر من مليار دولار. يومها تحفظنا عن النشر وقررنا التحقيق في مصدر هذه الوثائق قبل مكاشفة الرأي العام فيها. سافر زملاء لنا إلى باريس للبحث، والتقينا هنا في بيروت مسؤولين أمنيين وديبلوماسيين، والجميع رجح أن تكون الوثائق التي بين أيدينا صحيحة لكنها تحتاج إلى توثيق مصدرها. إلى أن كشف عنها سلامة في مقابلة مع محطة “أم تي في”، وحينها قررنا نشرها، وأشرنا إلى أننا لم نتمكن من تحديد هوية صاحب الوثائق، وأن نشرنا إياها سبقه إعلان سلامة عنها، وأن من حق الجمهور أن يطلع على ما ذكره سلامة في حينها!

وقتذاك أقدم مصرف ورد اسمه في الوثائق على الادعاء على ديما صادق، واستدعتنا القاضية غادة عون كشهود في تحقيق باشرته عن حقيقة ما تضمنته الوثائق. وبعدها أجرينا تحقيقات استقصائية موثقة عن ثروات سلامة في بريطانيا وفرنسا وعن شركاته هو وشقيقه ونجله ومساعدته في الجنات الضريبية، وأثبتنا أن الرجل بأفعاله صاحب جنايات يحاسب عليها القانون. كل هذا والرجل محصن بحمايات قضائية وسياسية، ومن يجاهر بخصومته يضمر حماية وحرصاً عليه. 

لكن الأهم من هذا كله، أن الوثائق الأولى التي نشرناها، والتي لم نتمكن من تحديد الجهة التي أعدتها، عادت أكثر من مرة لتطل برأسها بوصفها المادة الأولى لموبقات الرجل الكثيرة.

ففي آب/ أغسطس 2021، حصل “درج” على تسريب للنص الرسمي لمراسلة النيابة العامة الاتحادية السويسرية إلى القضاء اللبناني، طلباً للتعاون في “الميدان الجنائي” بحق المشتبه بهما رياض سلامة وشقيقه رجا، والتي أرسلت في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الفائت، علماً أن ما من تأكيد سويسري رسمي حول هذه الوثائق، على رغم أننا قاطعنا صحة المعلومات من أكثر من مصدر. وجاء في الطلب ما حرفيته: “تشتبه النيابة العامة في أن هذين الشخصين قاما بغسل أموال مصدرها عمليات اختلاس محتملة على نحو يضر بمصرف لبنان، اعتباراً من عام 2002 كأقل تقدير… وبأن الشخصين المشتبه بهما قد استخدما النظام المصرفي السويسري لغسل الأموال المعنية”.

وجاء في الفقرة الرابعة من المراسلة: “منذ نيسان/ أبريل 2002 على الأقل، يبدو أن حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، قام بمساعدة أخيه رجا سلامة بتنظيم عمليات اختلاس لأموال قدرت بأكثر من 300 مليون دولار أميركي على نحو يضرّ بمصرف لبنان، وذلك من خلال توقيعهما على عقد مؤرخ في 6 نيسان 2002، بين مصرف لبنان وشركة Forry Associates LTD، في جزر العذراء البريطانية وصاحب الحق الاقتصادي الوحيد لها هو رجا سلامة. ويبدو أن عمليات الاختلاس قد عادت بالفائدة على رياض ورجا سلامة، وكذلك أفراد من أسرتهما أو محيطهما ومنهم ماريان حويك (المولودة في 14 أيار/ مايو 1980،

مواطنة لبنانية يبدو أنها مقيمة في بيروت). ويبدو أن المبالغ المختلسة منذ نيسان 2002 وحتى اليوم قد حُوّلت كلياً أو جزئياً إلى حسابات في سويسرا قبل غسلها بسبل شتى، منها تحويلات من حساب إلى آخر مع تغيير صاحب الحق الاقتصادي أو الاستثمارات في العقارات في سويسرا والخارج، لا سيما في المملكة المتحدة أو الاستثمارات في السندات المالية في سويسرا أو الخارج. ويرجح أن أفعال الغسل هذه قد شملت مبالغ كبيرة، وأنها حققت عائدات كبيرة وأشركت أشخاصاً كثيرين ويرجح أن هذه الأفعال قد ارتكبت في معظمها في الخارج”

هذه الوثائق تؤكد أن التحقيقات الجدية في موضوع إفلاس لبنان

تجرى خارج الحدود وأن التدخلات السياسية في القضاء اللبناني،

مثلت خط الدفاع الأول عن الطبقة السياسية الفاسدة التي يبدو أن سلامة هو صمّام أمانها.

اليوم قرر القضاء اللبناني منع سلامة من السفر بناء على هذه الوثائق.

لكن الرجل ما زال في برج الحماية الذي شيدته له الطبقة السياسية، فقد بادر

رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى إعلان تجديد هذه الحماية، وهو إعلان،

وإن ترافق مع انتقال قوى سياسية أخرى إلى الاعتراض على هذه الحماية،

إلا أن الاعتراض يقتصر على بعده الشعبوي، فرياض سلامة هو رأس النظام،

كما أن “حزب الله” هو رأسه أيضاً، وميشال عون رأسه الثالث.

“درج”: علي نور الدين – صحافي لبناني

من ناحية أخرى، 

ظهر الجسم القضائي في الأيام الأخيرة في أسوأ صوره: بين ربط قدرة القضاة

على فرض قراراتهم بنوعيّة المظلّات السياسيّة التي يحظون بها، وقدرة السياسيين

على كسر هيبة بعض القضاة وفرض تراجعهم عن قراراتهم.

لم تكن التحصينات الأمنيّة التي واجهت المتظاهرين أمام مصرف لبنان في 

التحرك الاحتجاجي الأخير، سوى الترجمة الأمنيّة لكتلة الحصانات السياسيّة

التي تحول دون تقفّي آثار ارتكابات حاكم مصرف لبنان على المستوى المحلّي، وخصوصاً تلك التي يتم التحقيق بشأنها في الخارج.

فقبل يوم واحد من انطلاق الاحتجاجات، كانت 6 مصارف لبنانيّة تنظّم في

وقتٍ واحد إحدى أوقح عمليّات الخروج الجماعي عن القانون، عبر رفض

تسليم دوريّات أمن الدولة داتا حسابات شقيق حاكم مصرف لبنان رجا سلامة،

وفقاً لطلب القاضي جان طنّوس، الذي يحقق في اتهامات الكسب غير المشروع وتبييض الأموال

والاختلاس الموجّهة ضد الحاكم في الخارج. وبذلك، كانت هذه المصارف تمتنع عن تسليم القاضي

المعلومات الكفيلة بتتبّع المصادر المحليّة للأموال التي تم تحويلها إلى أوروبا، والتي يشتبه

المحققون الأجانب بانطوائها على جرائم جنائيّة ماليّة. باختصار،

كانت الخطوة مجرّد تواطؤ متعمّد في سبيل إخفاء الحقائق التي يمكن أن تدين سلامة في حال الكشف عنها.

التعنّت في وجه القانون والقضاء

في واقع الأمر، كانت المصارف تشهر في وجه طنّوس ورقة السريّة المصرفيّة لتتمنّع

عن تسليم هذه الداتا لدوريّات أمن الدولة، التي قامت بمهمّة طلب المعلومات

بوصفها ضابطة عدليّة، وبحسب الأمر القضائي الموجّه لها. مع الإشارة إلى

أنّ مسألة السريّة المصرفيّة هي تحديداً الحجّة التي استخدمتها المصارف على مدى أربعة أشهر، للتغاضي

عن تنفيذ الأوامر القضائيّة المتتالية التي طلبت هذه المعلومات، فيما استخدمها

رياض سلامة نفسه طوال سنة كاملة لتفادي تقديم الداتا المتعلّقة

بحسابه الشخصي في مصرف لبنان. وبذلك، تحوّلت مسألة السريّة

المصرفيّة إلى العائق الأساسي الذي فرمل التحقيق في حسابات رياض

سلامة وشقيقه رجا، باعتبار أن تفسير الحاكم والمصارف قانون السريّة

المصرفيّة يحصر الإطلاع على هذه الداتا والتحقيق فيها بهيئة التحقيق الخاصّة، التي يرأسها حاكم مصرف لبنان نفسه.

المفارقة الأساسيّة هنا تكمن في أن المتهم في أخطر أنواع القضايا الجنائيّة الماليّة،

أي رياض سلامة، ومن تعاون معه في تنفيذ التحويلات داخل النظام المالي، أي المصارف الستّة،

هم من ملّكوا أنفسهم صلاحيّة النظر في القانون وتفسيره، وصولاً إلى الامتناع عن تنفيذ طلبات

القاضي الذي يحقق في القضيّة. وفي أي حال، من المعلوم أن المادّة السابعة من

قانون السريّة المصرفيّة تنص على  عدم جواز التذرّع بسرّ المهنة المنصوص

عنه في القانون، أي السريّة المصرفيّة، في وجه الطلبات “التي توجهها السلطات

القضائيّة في دعاوى الإثراء غير المشروع”. أي بمعنى آخر، لم يمتلك سلامة ولا

المصارف الحق في رفض طلبات تسليم المعلومات للقاضي طنّوس،

لا بل لم يكن هناك ما يعطي هيئة التحقيق الخاصّة الحق الحصري في التحقيق بهذه المعلومات

في الواقع، لم تكتفِ المصارف بمخالفة القانون عبر التغاضي عن تقديم هذه المعلومات

طوال الأشهر الماضية، بل بلغت حد قيام “بنك ميد” برفع دعوى مخاصمة

الدولة في وجه القاضي طنّوس، لمجرّد تجرّؤه على طلب كشوفات حسابات سلامة.

وبهذه الخطوة، التي أراد من خلالها المصرف إبطال طلب الكشوفات،

تمت عرقلة التحقيقات لمدّة شهر ونصف الشهر، بعد كفّ يد القاضي موقتّاً بحسب القانون بانتظار حسم الموقف، إلى أن أصدرت

الهيئة العامّة لمحكمة التمييز رفضها طلب المصرف في أواخر العام الماضي.

وعلى رغم رفض الهيئة العامّة لمحكمة التمييز طلب “بنك ميد”،

ما يعني تثبيتها حق القاضي طنوس بطلب كشوفات الحسابات،

لم يتعاون أي من المصارف اللبنانيّة مع طلبات القاضي منذ بداية هذا العام، وهو ما فرض أخيراً إرسال دوريّات أمن الدولة للحصول على المعلومات.

ببساطة شديدة، ما قامت به المصارف من ناحية رفض طلبات القاضي طنّوس لم يكن سوى

تعنّت في وجه نص قانوني صريح، وفي وجه قاض امتلك كامل صلاحيّة طلب داتا حسابات

شقيق رياض سلامة. بل وبعد صدور قرار الهيئة العامّة التمييزيّة، التي أقرّت

بوضوح امتلاك طنّوس هذا الحق، بات سلوك المصارف أقرب إلى سلوك المؤسسات

المارقة التي ترتكب عملاً جرمياً صريحاً بعرقلة التحقيقات، وإخفاء الأدلّة التي يطلبها القضاء اللبناني. 

ولهذا السبب بالتحديد، يمكن القول إن ما تمتّع به رياض سلامة في وجه الملاحقات القضائيّة

لم يكن حصانات القانون، الذي أجاز في واقع الأمر ملاحقة داتا حساباته وتقديمها للمحاكم المحليّة والأجنبيّة،

بل حصانات سياسيّة سهّلت هذا الخروج المصرفي عن القانون.

الحصانات السياسيّة الفجّة

بعد مداهمة دوريّات أمن الدولة أقسام المحاسبة في المصارف الستّة،

وبعد تمنّع المصارف عن تقديم الداتا، وإصرار طنّوس على تنفيذ قراره، جاء دور المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات كأداة في

خدمة الضغوط السياسيّة على القضاء اللبناني، لفرض تراجع طنوس عن موقفه.

وهكذا، طلب عويدات من طنّوس إبلاغ دوريّات أمن الدولة بإلغاء مهمّتها،

ملوّحاً بالتدخّل شخصيّاً وتوجيه هذا الأمر بشكل مباشر في حال عدم امتثال طنّوس. وبهذه الطريقة،

توقّفت العمليّة بأسرها، بعدما كان طنّوس على وشك فرض استلام هذه الداتا التي ينتظرها القضاء اللبناني

والمحاكم الأجنبيّة من خلال التدخّل الأمني المباشر على الأرض.

طلب عويدات الفج، لم يكن تبريره متاحاً من الناحية القانونيّة أو القضائيّة البحتة. فتدخّل المدعي

العام التمييزي في قضيّة يحقق فيها مرؤوسوه ممكن لتسهيل عمل التحقيقات، أو تحديد نطاقها

ومنع تداخلها مع ملف قضائي. لكن ليس هناك ما يفسّر تدخّل المدعي العام التمييزي بهذا الشكل

، عبر عرقلة إجراء قضائي يهدف إلى جمع معلومات بالغة الأهميّة في ملف حسّاس، خصوصاً بعدما

امتلك طنّوس الحصانة المطلوبة عبر قرار الهيئة العامّة لمحكمة التمييز، التي ثبّتت حقّه في الحصول على المعلومات.

سرعان ما تبيّن لاحقاً أن تدخّل عويدات لم يكن سوى استجابة لضغوط الرئيس نجيب ميقاتي،

الذي وضع ثقله لفرض وقف عمليّة جمع المعلومات، مكرّساً المعادلة التي تربط وجوده في

السلطة بالحماية السياسيّة الممنوحة لحاكم مصرف لبنان. مع الإشارة إلى أن ما قام به رئيس الحكومة هنا،

وإن كان تحت عنوان الحفاظ على الأصول القانونيّة في التعامل مع القطاع المصرفي كما أشار لاحقاً،

يندرج في إطار التدخّل السافر في عمل القضاء، وهو ما يضرب مبدأ الفصل بين السلطات،

خصوصاً السلطتين التنفيذيّة والقضائيّة. ومن الناحية العمليّة، لا يوجد أي نص قانوني يفتح المجال

لرئيس الحكومة للاتصال بالمدعي العام التمييزي، بهدف فرملة إجراء قضائي مهما كانت طبيعته.  

القضاة المحصّنون

في مقابل لي ذراع جان طنّوس، كانت القاضية غادة عون تصدر مذكّرة موجّهة إلى المديريّة العامّة للأمن العام،

تقضي بمنع حاكم مصرف لبنان من السفر إلى خارج أراضي الجمهوريّة اللبنانيّة برّاً وبحراً وجواً. وهذا القرار،

تم ربطه بالمعطيات المهمة في ملف التحقيق الدولي نفسه، والذي يُعنى بتهم الكسب غير المشروع

وتبييض الأموال والاختلاس الموجّهة إلى سلامة. لكن وبخلاف طنّوس، لم يُفرض حتّى اللحظة أي تراجع

عن القرار الذي اتخذته القاضية غادة عون بحق سلامة، وهو ما لا يمكن تفسيره

إلا بالمظلة السياسيّة العريضة التي تتمتّع بها عون التي يدعمها العهد، ما يسمح لها بفرض هذا

النوع من القرارات وعدم التراجع بسهولة. كما يمكن تفسير سرعة سقوط قرار طنّوس، مقارنةً بصمود

قرار غادة عون، بحساسية المعلومات التي كان من شأن قرار طنّوس أن يفضي إلى كشفها، والتي كان

يمكن أن تؤدّي إلى توريط سلامة قضائيّاً بأدلّة قادرة على الإطاحة به، بينما يمكن إلغاء قرار عون في

المستقبل بمعزل عن تداعيات صدوره المعنويّة في الوقت الحالي. 

في خلاصة الأمر، ظهر الجسم القضائي في الأيام الأخيرة في أسوأ صوره: بين ربط قدرة القضاة

على فرض قراراتهم بنوعيّة المظلّات السياسيّة التي يحظون بها، وقدرة السياسيين على كسر هيبة

بعض القضاة وفرض تراجعهم عن قراراتهم. أمّا النتيجة، فهي تمكّن حاكم مصرف لبنان من التملّص

من استحقاق الكشف عن حسابات شقيقه المصرفيّة، وطمس الأدلّة التي كان يفترض أن تدينه في

المحاكم المحليّة والأجنبيّة، مع الإبقاء على الثغرات الموجودة في التحقيقات الدوليّة بحقّه. وفي النتيجة،

وطالما أن الجزء المتعلّق بمصادر هذه الأموال في لبنان لم يُكشف بعد، نتيجة عدم الكشف

عن داتا حسابات شقيق سلامة، فمهمّة إدانة سلامة في المحاكم ستكون أصعب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com