غرفة “ومنافعها”…للسوريين فقط
جوان ملا
لم يكن جميل يعلم أنّ تلك الغرفة الصغيرة الملاصقة للمنزل الذي استأجره وإياها، منذ عشرين عاماً، في بيروت، ستكون، يوماً ما، مقصداً للعديد من الشبّان السوريين، بل وتصبح ملاذاً آمناً لهم.يعمل جميل، وهو اسم مستعار لرجل لبناني في الأربعينيات من العمر، في مجال الإعلان والتسويق منذ سنين طويلة، وقد جمع كل المجلات و الصحف القديمة التي تتضمّن إعلانات صمّمها أو شارك في إعدادها.
يخبئها في “كرتونات” مكدّسة في تلك الغرفة التي تحوّلت، مع مرور الزمن، إلى “مستودع” تتراكم فيه أغراضه وأشياؤه الخاصة…
إلى أن بدّلت الحرب في سوريا مصير تلك الغرفة، فجعلت منها مساحة تتردّد في أنحائها أخبار وحكايات
تضاهي القصص المكتوبة على صفحات تلك المجلات العتيقة؛ قصص لم يخطر يوماً ببال جميل نفسه أن تحصل.
أيجار بالصدفة
هرب العديد من السوريين، عائلات وفُرادى، من بلادهم.
والفئة الكبرى كانت من الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين ستة عشر عاماً والأربعين.
فرّوا إمّا بسبب الحرب وعدم الأمان، أو خوفاً من الخدمة الإلزامية التي باتت تدوم لسنين طويلة جدّاً
فوجد الكثيرون منهم في لبنان ملاذاً مؤقتاً يلجأون إليه ريثما يعودون إلى ديارهم
أو يغادرون نحو أوروبا بمساعدة منظمة الأمم المتحدة أو حتى بواسطة “التهريب” بحراً.
يُكِنَّ جميل للسوريين الكثير من المودّة.
فهو يعرف بلادهم جيداً وقد زارها عدّة مرّات، وله فيها أصدقاء كُثر أكرموه دوماً حين قصدهم،
واستمتع بطعام المطبخ السوري الذي يعتبره الأفضل في العالم، لا سيّما مطبخ حلب التي تشتهر بأكلها اللذيذ.
شاءت الصدفة، عام 2013، أن يأتي ذلك الشاب الحلبي، واسمه محمد، ليسأل في المنطقة التي يسكن فيها جميل،
عن غرفة صغيرة “مع منافعها، أي حمام ومطبخ”، يمكنه استئجارها بسعر مقبول.
علم جميل بطلب الشاب الذي قيل له عنه أنه كان يعمل في السابق في مطبخ إحد المطاعم الحلبيّة.
إتصل جميل بالشاب طالباً منه أن يقابله ليُريه الغرفة. جاء محمد ووقد ارتسمت على وجهه علامات الريبة.
لكنّ جميل أبدى له كل المحبة، وبادره بالسماح له باستخدام الغرفة مجاناً،
إلى أن يجد عملاً ويستطيع دفع الأيجار الذي لم يكن أصلاً بالمبلغ الكبير.
بين ليلة وضحاها، تغيّرت ملامح الغرفة.
فقد أصبحت خالية من الأغراض التي نقلها جميل إلى سقيفة منزله.
أمّا القليل الذي تركه، فنظمه بشكل مرتب.
احتوت الغرفة على سرير وأريكة ، مع خزانة صغيرة و”بوتوغاز” بعين واحدة، وحمّام صغير بجانبه مرحاض.
رغم ضيق مساحتها، إلا أنها أفرحت قلب محمد، لا سيّما أنّ جميل حاول أن يوفّر له وسائل الراحة كافة
في المقابل، صار محمد يقدّم لجميل طعاماً لذيذاً يطبخه في بيت جميل، فيأكلان ويتسامران معاً، حتى صار محمد أنيس جميل في وحدته.
الخيبات لا تلغي الإنسانية
بعد فترة من الزمن، غادر محمد الغرفة ليستأجر مكاناً أقرب لموقع عمله الجديد. ودّع صديقه جميل لكن صداقتهما حالت دون افتراقهما،
بل ظلت لقاءاتهما مستمرّة إلى أن سافر محمد إلى تركيا بعد عامين. خلال هذين العامين، سكن الغرفة شابان آخران:
علم وائل بوجود هذه الغرفة من خلال تطبيق olx بعد أن عرضها جميل للأيجار، مخصّصاً إياها للشبّان السوريين فقط.
استأجر وائل الغرفة بمبلغ زهيد. كان يبدو هادئاً، لا يحب الاختلاط بالناس، حتى بجميل نفسه،
رغم محاولات الأخير الدائمة بأن يصبحا صديقين: كان يُدخله إلى منزله المجاور للغرفة، ويدعوه إلى الغداء…
كان وائل يتجاوب أحياناً. بقي الأمر على هذه الحال مدّة سنة تقريباً، إلى أن اكتشف جميل، ذات يوم،
أنّ وائل عبث بأغراضه وسرق مبلغ مئتي دولار أميركي، فأحسّ جميل بخيبة عميقة…
لا يحب جميل الدخول بتفاصيل هذه القصة، لكن وقتها، حزن كثيراً بسبب تصرّف وائل هذا.
لم يخبر الشرطة، بل أنذر الشاب بكل هدوء:
“معك أسبوع لتغادر الغرفة”. غادر وائل المكان ، دون أن يدرك تماماً أنّ جميل اكتشف أمره.
“هل صرتَ تخاف من تأجير الغرفة للسوريين بعد هذه الحادثة؟”
يجيب جميل: “مو كل أصابيعك متل بعضها. الله يسامحو بالمصاري، بس لو طلبهن منّي، ما كنت قصَّرْت”.
لكن طيبة قلب هذا الرجل عادت لتوقعه في المشاكل مجدّداً.
فقد تعرّض للسرقة مرّة أخرى، والجاني شاب سوري آخر سمح له جميل أن يقيم في الغرفة مجاناً…
التعميم من خصال الجهلاء
كان من الطبيعي أن يكون هذان الموقفان كفيلَيْن بأن يتراجع هذا الرجل اللبناني الطيّب عن تأجير تلك الغرفة لأي سوري،
إذ، بحكم الحاجة والضيق المادي، قد يلجأ بعضهم للسرقة لتدبير أمورهم.
لكن جميل لم ينظر إلى الموضوع بهذا الشكل. لم يشمل جميع السوريين بتعميم واحد.
فبعد محمد ووائل وشاب ثالث، استقطبت الغرفة خمسة شبان سوريين آخرين ما بين عامي 2015 و2020،
لكل واحد منهم قصة ومصير.
بلال كان بعمر السابعة عشرة عندما جاء من سوريا بعد موت أهله تحت ركام منزلهم،
ليقيم عند عمته وزوجها في برج حمود. لكنه لم يعد يطيق العيش في بيت أقاربه بسبب تكرار مواقف مسيئة له،
فقرّر أن يستقرّ في مكان خاص به. لمّا عرف جميل بقصته عن طريق صديق له، جعل الغرفة من نصيبه.
لم يصدّق بلال أنه حظي بالغرفة، وأصبح يتعامل مع جميل وكأنه أخوه الأكبر. كم كان يضحك جميل
وهو يتذكّر أنّ بعض الجيران ظنوا أنّ هذا الشاب ابنه من زوجة أجنبية يخفيها عنهم، لكثرة ما كانوا يشاهدانهما معاً!
وكما أنّ الضحكة لا تفارق وجه هذا الرجل، كذلك الدموع، خصوصاً حين يستعيد ذكرى بلال وأربعة شبّان آخرين.
فبعد أن سافر بلال مع عمته إلى أوروبا، تعاقب على الغرفة عروة ويامن وحازم وسليم.
ما زال جميل يتواصل معهم بعد أن سافروا جميعاً، الواحد تلو الآخر.
“رغم أنّ بعض هؤلاء الشبّان كان عمرهم قريباً من عمري، إلا أنني كنت أشعر أنهم أبنائي، يخفّفون عليّ وطأة وحدتي؛ نأكل معاً؛ نتسوّق معاً؛ نضحك معاً…”
وتتوالى الذكريات في ذهن جميل وعلى لسانه.
كلمات جميلة بحق “جميل”
كان يامن وسليم “أولاد عم”. سكنا معاً في هذه الغرفة الصغيرة لقاء أيجار بسيط يعادل خمسين دولاراً “قبل أزمة المصارف في لبنان”.
عاشا سنة ونصف السنة تقريباً في هذه الغرفة، ورغم ضيق الحال والمكان،
إلا أنهما كانا مرتاحَين جداً في تعاملهما مع جميل، كما يقولان، يساعدانه دوماً في كثير من أموره وحاجاته.
ورغم أنّ أحدهما وجد عملاً، إلا أنه رفض مغادرة الغرفة كي لا يترك جميل وحده.
ولكن، بعد حين، سافر الشابان سعياً وراء غدٍ أفضل. إتجها إلى أوروبا عن طريق “التهريب”،
مخصّصين كل ما جمعاه من مال لمغامرة السفر هذه، فوصلا إلى وجهتهما قبل حلول أزمة كورونا بقليل.
يعترف يامن وسليم أنّ أجمل أيام حياتهما قضياها في تلك الغرفة المتواضعة، لأنّ روح الألفة والمحبة كانت تحيط بهما، وهي نابعة من قلبٍ…جميل.
أمّا عروة، وعمره ثلاثون عاماً، وقد سكن في تلك الغرفة ما يقارب التسعة أشهر،
فيخبر أنّ جميل هو من “دبّر” له عمله في مكتبة ببيروت. ويستذكر كم كان هذا الرجل كريماً ونبيلاً معه.
فقد كان لدى عودته من عمله، يقصّ على جميل كل أخبار نهاره بالتفاصيل المملّة،
دون أن يبدي سامعه أي ملل أو انزعاج. ويضيف عروة ضاحكاً:
“كنت أحكي كتير، وأحياناً، ينام وهوّ عم يسمعني”.
العطاء مفتاح القلوب
لم يكن جميل يملك تلك الغرفة. بل كان قد استأجرها و”يؤجّرها على الأيجار”.
لم يكن لدى صاحبة المنزل أيّ مانع، بما أنها تقضي معظم أيام السنة مسافرةً.
لكن بعد حلول أزمة كورونا، لم يعد جميل يؤجّر الغرفة خوفاً من الوباء. وفي بداية العام 2021،
طلبت صاحبة البيت أن تستعيد هذه الغرفة لأنها أصبحت بحاجة إليها،
فما كان من جميل إلا أن استسلم لرغبتها وسلّمها الذكريات التي كدّسها، كما المجلات والصحف،
مع ذاك المفتاح الذي كان به، ولسنين طويلة، يفتح قلب كل شاب يدخل تلك الغرفة.
غرفة قد تكون مجرّد سقف يقي ساكنها شظف الحياة، أو مجرّد محطة على طريق حياته،
لكنها بالتأكيد فصل جميل من قصة تبقى في البال.
ما زال جميل يسكن ذلك البيت والغرفة قابعة بجواره، لا يستطيع أن يدخلها كما في السابق،
إلا أنه يزورها في خياله، على وقع الحكايات القديمة التي نسج خيوطها مع هؤلاء الشبّان الذين سافروا إلى البعيد…،
يضحك تارةً، ويبكي تارةً، كما وكأنه فارق أولاده… أولادٌ سوريون كانوا يبحثون عن “غرفة ومنافعها”،
فأتت عليهم، بالفعل، بكل المنافع الموجودة فيها وفي…قلب مؤجِّرها.