السلطة تتخبّط في الأمن الغذائي: نحو التسوّل!.. فشل في الاستيراد وفي تنظيم التوزيع
“منذ أول” من أمس، عمد عناصر فرع المعلومات إلى منع المطاحن من تسليم أي كميات لغير الأفران التي تصنع الخبز العربي (أي لصناعة المناقيش والكرواسان والحلويات وللأفراد)، إلا بموجب «بون» صادر من المديرية العامة للحبوب والشمندر السكري. بعد ظهر أمس تراجع الفرع عن القرار الذي لم يُتخذ في وزارة الاقتصاد، «ولا نعلم مصدره» بحسب المدير العام لمكتب الحبوب جورج برباري، مشيراً إلى أنه تواصل «مع المعنيين في قوى الأمن الداخلي وتمنينا عليهم التراجع عن القرار لأنه أدّى إلى تهافت على المديرية للحصول على بونات شراء».
لماذا حصل ذلك؟ الواقع، أن إرباكاً واضحاً يسود التعامل مع أزمة القمح. فالكميات المتوافرة في السوق لا تكفي لأكثر من شهر، فيما هناك صعوبات تحول دون استيراد القمح بسبب الأزمة الروسية – الأوكرانية، فضلاً عن ارتفاع سعره العالمي. وحتى الآن، تتعامل السلطة ببرود تام مع مسألة بهذه الحساسية. وفيما تتسابق الدول منذ الأيام الأولى لانفجار الأزمة الحرب إلى تكوين مخزون من القمح يكفي حاجاتها الاستهلاكية لأطول فترة ممكنة، لم يحرّك المعنيون في لبنان ساكناً. لا بل انتظرت الحكومة أكثر من عشرة أيام قبل أن تؤلف «خلية وزارية» للأزمة لم تتمكن من عقد اجتماعها المقرّر أول من أمس، بسبب انشغالات أعضائها الوزراء!
عدوى التخبّط والإرباك انتقلت إلى المستوى الأدنى. وفي هذا السياق أتى قرار فرع المعلومات، بناء على تعليمات جهة ما، لتنظيم عملية تسليم الطحين إلى أصحاب الأفران بناء على «بونات» تصدر عن المديرية العامة للحبوب والشمندر. وهذه الأخيرة، سواء كانت على علم بالقرار أم لا، ليست قادرة على تنظيم عملية التوزيع لآلاف الأفران الصغيرة والزبائن الإفراديين في يوم واحد وسط تهافت على شراء الطحين استباقاً لأي انقطاع محتمل لهذه السلعة.
هل حفظ الأمن الغذائي يفترض تخصيص كل الطحين للخبز العربي ومنع صناعة المناقيش؟
لكن قبل كل ذلك، فإن السؤال هو ما إذا كان تنظيم الحاجات الاستهلاكية وحفظ الأمن الغذائي يفترض تخصيص كل الطحين للخبز العربي ومنع صناعة المناقيش وفق قرارات عسكرية؟
حالياً، يواجه مستوردو القمح صعوبة في الاستيراد ناجمة عن قصور مصرف لبنان في فتح الاعتمادات، وعن صعوبة إيجاد السلعة بكلفة مقبولة نظراً لصعوبة الاستيراد من أوروبا وارتفاع كلفة الاستيراد من أميركا وكندا مثلاً. أما الدولة فلا تزال غائبة عن الوعي وتحاول أن تعوّض عن فشلها وإهمالها الناتج من التأخر في إعلان حالة الطوارئ الغذائية، بالبحث عن طريقة لتسوّل القمح، كما أعلن وزير الاقتصاد أمين سلام أمس، في استعادة لسيناريو الفيول والمازوت لزوم حاجات كهرباء لبنان، مع فارق «بسيط»، هو أن الأزمة اليوم عالمية.
خليّة الأزمة «تكتشف» منشآت لتخزين القمح!
… أخيراً، عقدت اللجنة الوزارية المكلفة متابعة الأمن الغذائي والبحث في نتائج الحرب الروسية ــــ الأوكرانية على السوق اللبنانية أول اجتماعاتها، بعد عشرة أيام من قرار تشكيلها. اللجنة المؤلفة من كل من وزراء: الصناعة والزراعة والاقتصاد والدفاع والثقافة ناقشت، لساعتين، الأمن الغذائي بشكل عام. خلال المداولات، طُرح عدد من الأسئلة عن سبب عدم القدرة على زرع القمح الطري في لبنان، والإجابة الوحيدة هي أن «الناس غير موجّهة وليست معتادة»، فيما رأى وزير الزراعة عباس الحاج حسن أنه «يُمكِن شراء الشتول وتوزيعها وتوجيه الناس لزراعة القمح لنصبح قادرين خلال ستة أشهر على الاستغناء عن الاستيراد». كما تناول النقاش موضوع الاحتكارات، وسرد وزير الاقتصاد أمين سلام وقائع صادمة من المداهمات التي قام بها عن حجم السلع التي جرى تخزينها، إذ «وجدنا آلاف غالونات الزيت التي اشتراها التجار على السعر المدعوم بـ 40 ألف ليرة، ويبيعونها اليوم بما يفوق الـ 400 ألف ليرة». من هذه النقطة توسّع النقاش، بحسب مصادر في اللجنة، للبحث في استراتيجية «مكافحة الاحتكار والاستفسار عن دور مديرية الحبوب والشمندر السكري». كما عُرضت الإجراءات التي اتخذتها الدول في ما خص منع التصدير، فأشار وزير الاقتصاد إلى أن الهند «وافقت على بيعنا القمح لأنها تملك احتياطاً كبيراً منه، لكن المشكلة أن اللجوء الى الهند سيكلف الدولة أضعاف ما كانت تدفعه بسبب ارتفاع أسعار القمح، فضلاً عن كلفة النقل».
وزير الاقتصاد: عثرنا على كميّات ضخمة من الزيت تعود إلى أيّام الدعم
إلا أن ما «صدم» الوزراء المجتمعين، بمن فيهم وزير الاقتصاد نفسه، هو «اكتشاف» وجود منشأة في البقاع تعود إلى مركز الأبحاث التابع لوزارة الاقتصاد تتسع لـ 400 ألف طن من القمح (في أكياس) أو 200 ألف طن «فرط». إذ إن هذا المعطى كان غائباً كلياً، علماً بأن إهراءات المرفأ كانت تتّسع لـ 120 ألف طن فقط. وعليه، تقرر في الجلسة الأولى الكشف عن هذه المنشأة، وفي حال كانت جاهزة «يُمكن استيراد كميات كبيرة في أسرع وقت بسعر أرخص قبل ارتفاع الأسعار، مع توفير في كلفة الشحن إذا ما استوردت كميات كبيرة دفعة واحدة يمكن أن تكفي السوق اللبنانية لمدة 8 أشهر». كما اتفق على قيام الجيش اللبناني بإجراء مسح للأراضي الزراعية، والاستعانة بتقرير أنجزته مديرية الشؤون الزراعية لتحديد السهول التي يزرع فيها عدد من أنواع القمح، وعلى أساسها يمكن البدء بوضع خطة لتوجيه المزارعين. كذلك جرى الاتفاق على الاجتماع يومياً لمواكبة التطورات.
طمأن وزير الاقتصاد والتجارة، أمين سلام، إلى أن «هناك كميات كافية من القمح تكفي لشهر ونصف شهر وحتى شهرين، وموضوع الأمن الغذائي لا يرتبط فقط بالقمح، بل بكل الأمور التي لها علاقة بالمواد الغذائية وتأمينها للمستهلك اللبناني، ومن ضمنها ما يتعلق بعملية الاستيراد والتصدير، وبالمصانع والمصالح والمتاجر على أنواعها»، مؤكداً «أننا لم نصل بعد إلى مرحلة الاستعجال فقط لعقد جلسات لجان لاتخاذ قرارات مستعجلة». وأشار إلى أنه تواصل مع سفراء الولايات المتحدة وتركيا والهند، والأخيرة لديها «كميات كبيرة من القمح الذي يناسب صناعة الخبز العربي، وأكد لي سفيرها أنها ستكون إلى جانب لبنان من خلال تزويده بحاجاته من القمح. وفي حال تطورت الأمور هناك دول تملك ملايين الأطنان منه، يمكنها تزويدنا بحاجاتنا، خصوصاً أن ما نحتاجه سنوياً هو كمية بسيطة أي 650 ألف طن».
وشدد سلام على أن «أي قرار لا يصدر عن وزارة الاقتصاد، وتحديداً مكتب الحبوب والشمندر السكري، غير ملزم لأي أحد في هذا القطاع»، ولفت إلى أن «الأولوية اليوم هي تأمين الخبز العربي، وأي أمر يؤثر في إنتاج الخبز العربي سيتم خفضه، وعندما تظهر لدي معطيات عن تسبب بنقص في الخبز العربي ستتخذ قرارات في شأن صناعة المناقيش والكرواسان والبيتزا». ولفت إلى أنه منذ أسبوعين «كانت 11 باخرة محمّلة بالقمح راسية في عرض البحر، وكانت الاعتمادات المبدئية مفتوحة لها من مصرف لبنان، وهناك موافقة عليها بالدخول من قبل وزارة الاقتصاد، وتواصلت مع مصرف لبنان الذي يتعاطى بإيجابية». وأعلن عن «تواصل مع بعض الدول، وتواصل مهم جداً مع البنك الدولي الذي قدم اقتراحات للمساعدة في إطار الأمن الغذائي ضمن مشروع يمتد لسنة متكاملة، ويستطيع البنك ضمان آلية التمويل. وإذا حصل عجز لدى مصرف لبنان أو خزينة الدولة يحول دون شراء القمح فسيكون البنك الدولي بجانبنا في اعتمادات مرصودة للبنان لمساعدتنا على إدخال كميات من القمح.