الودائع تُسرق أو تُنهب.. لكن لا تطير
بقلم فادي عبود – الجمهورية
بدأت السلطة باستعمال مصطلح «فجوة مالية « لتصف الفضيحة المالية، وكأنّ هذه الفجوة حصلت بفعل عوامل طبيعية، وكأنّ لا أحد مسؤولاً عن الانهيار، واختفت الأموال بسبب ثقب اسود ظهر فجأة، وليس نتيجة ممارسات سيئة تنبع من عدم كفاءة ادارات المالية العامة في العقد الماضي، او ممارسات مقصودة تهدف الى السرقة وإيصال البلد الى التعتير. مصطلح «فجوة مالية» يعني إصدار صك براءة لكل من كان مسؤولاً، مباشرة او غير مباشرة، عن مالية الدولة في تلك الفترة. فلا محاسبة ولا تحقيق ولا تدقيق. وإقناع المواطن انّ ما حصل كان قضاءً وقدراً، وعليه ان يتقبّل واقع إفقاره.
ويقولون إنّ هذه الفجوة بأكثر من 60 مليار دولار، ويطلبون من المواطن والمودع تحمّل الخسائر. ولكن، ما هو حجم هذه الفجوة فعلياً؟ كيف يتمّ احتسابها، على أية مستندات بنوا هذا الرقم؟ هل تمّ الكشف عن حسابات المصرف المركزي؟ وألا يحق للمواطن الإطلاع على كل الارقام والحسابات قبل توزيع الخسائر؟
وتسعى السلطة إلى تحميل الناس والمودعين تبعات هذه الفجوة، في خطة التعافي المقترحة، عبر إصدار النقد وزيادة الضرائب، بالإضافة الى haircut على ما تبقّى من الودائع، مما سيؤدي الى مزيدٍ من الفقر والهجرة والبطالة.
إذا كانت هذه الخطة المقترحة من الحكومة لإخراجنا من التعتير، فنحن نرفضها ولا نريد حكومة تعمل على إفقار شعبها. فليس المودعون وحدهم من تضرّروا، الشعب اللبناني فقد قيمة رواتبه وخسر تعويضاته، ولا تزال السلطة تدور في حلقة مفرغة للتعامل مع الوضع، عبر إيجاد طرق لاحتساب الخسائر ومحاولة ردمها، وهذا يعني انّ هذا النظام المالي يعيد إنتاج نفسه.
على الدولة ان تتحمّل مسؤوليتها وتغيّر في طريقة تعاطيها مع الأزمة، وتفكّر في طرق لزيادة الإنتاج، وتُرجع ما خُسر وهُدر باسمها للناس، قبل وضع ضرائب. فمن الحماقة التفكير بالضرائب قبل التفكير بالإنتاج. فكيف يتمّ فرض ضرائب على من تمّ إفلاسه وإفقاره؟ فلتتفضل الحكومة طرح خطة لزيادة الإنتاج والّا فلتستقل .
وأود ان أثمّن موقف رئيس جمعية التجار نقولا شماس في لقاء الهيئات الاقتصادية مع نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، حول مسار التفاوض مع صندوق النقد الدولي، والذي حذّر «من خطة التعافي الاقتصادي التي تقترحها الحكومة، رافضاً تحميل المودعين والمصارف حصراً»، واعتبر انّ «ما يجري يُعدّ هرطقة مالية ما بعدها هرطقة». ونتمنى ان تبقى الهيئات الاقتصادية على موقفها الموحّد في رفض الخطة المقترحة.
الخطير انّ الحكومة لا تدرك انّ عدم إرجاع الودائع لن يكون له أثر على المودعين فقط، بل سيتسبب بانهيار لبنان اقتصادياً. فمن سيثق مستقبلاً بدولة نهبت مواطنيها ومودعيها؟ من سيتجرأ على الاستثمار في لبنان او على تحويل قرش إلى مصارفه مجدداً؟ هذا سيكون له تداعيات مأساوية على الاقتصاد اللبناني، والعكس صحيح، إذا قامت الدولة بالرغم من أزمتها المالية بإعادة الودائع، فستعزز الثقة وسيدرك أي مستثمر انّه حتى في عزّ الأزمات لن يخسر أمواله .
والدولة قادرة على إعادة الودائع، هذا بالإضافة الى انّ المصارف قادرة ايضاً، لأنّها حققت أرباحاً في السنتين الماضيتين (تحدثنا عن هذه النقطة مراراً). فالدولة ليست مفلسة، لأنّها تملك اصولاً، ولكنها تستثمرها بطريقة خاطئة. لذلك نقترح:
أولاً ، على الدولة ان تنطلق بخطة تنموية نحو اقتصاد منتج كما قلنا، تأخذ بالاعتبار زيادة الإيرادات، عبر استثمار اصول الدولة بطرق فعّالة لزيادة الأرباح. فما زلنا نتعامل مع هذه الاصول بعشوائية، وآخرها المناقصة المشبوهة التي تمّ منحها لشركة CMA/GCM في المرفأ لعشر سنوات، من دون دراسة جدوى اقتصادية، لتبيان أفضل السبل لاستثمار اراضي المرفأ التي تقدّر بأكثر من 10 مليارات دولار .
ثانياً، على الدولة ان تدرس إمكانية بيع بعض الاراضي، فهناك أراضٍ يجب ان تبيعها الدولة، حتى لو لم تكن تواجه افلاساً ولم تكن تحتاج الى مداخيل، لأنّ الاحتفاظ بها يُعتبر هدراً اقتصادياً ويسبّب ضرراً. مثلاً اراضي سكة الحديد البحرية، فبقاؤها بعهدة الدولة يمنع تطوير الشاطئ والاستفادة منها سياحياً واستقطاب الاستثمارات المهمّة. كما تخصيص اراضٍ لاستقطاب مشاريع حيوية تؤمّن مداخيل للدولة .
أخيراً ، المهزلة أننا ما زلنا نستقي المعلومات والارقام من تسريبات من هنا وهناك. يتمّ تخطيط مستقبل الشعب لسنوات عديدة مقبلة ولكنه آخر من يعلم، ويتمّ حجب كل المعلومات عنه. الشفافية المطلقة هي حاجة أساسية لتقييم الوضع ومعرفة المرض بتفاصيله. كما انّ اي خطط مقترحة لن تُنفّذ بفعالية إذا لم يتمّ اعتماد الشفافية المطلقة في عمل الدولة.