لبنان في سيارة “سرفيس”
المدن
اضطررت هذا الأسبوع إلى اللجوء لـ”السرفيس” للتنقل. وهو ما أتحاشاه باستمرار، نفوراً من ميل السائقين وركابهم للثرثرة المجانية، التي تتحول عادة إلى حفلة تكاذب لبنانية مروعة، تبث فيّ اليأس والتوتر العصبي المكتوم.
توقعاتي المسبقة لـ”المحنة” التي سأعانيها طوال أيامي العصيبة مع “السرفيس” صدقت تماماً.
في اليوم الأول: سيارة متهالكة ستنعطب في أي لحظة. السائق بلا أسنان تقريباً مع أنه أربعيني عمراً. رائحة فمه الكريهة لا تخففها الكمامة. تباً، نسيت القاعدة الأولى التي أعتمدها: لا تجلس بجوار السائق. بعد ثوان قليلة من انطلاقنا، أرخى كمامته وانطلق لسانه: “كيف بيقولوا الناس ما معها مصاري، سعر البنزين 500 ألف ليرة وعجقة السير ما بتخلص؟”. وكان عليّ (تهذيباً) أن أجيبه. ترددت وقررت إجابة مختصرة: الأزمة أولاً هي إفلاس البنوك والدولة، وليس الأفراد. بعضهم لديه مورد خارجي وبعضهم لديه مدخرات، وبعضهم ما زال يؤمن مدخولاً من مهنته.
صنارته السرية اصطادتني من كلمتي البنوك والدولة: “الرئيس قالها. هو يعرف ذلك، وهم يحاربونه”. فهمت فوراً أن صاحبنا مغرم بالجنرال عون. هززت رأسي ولذت بالصمت. فأدرك من صمتي أني لست من أهل غرامه.
ربع ساعة بلا توقف راح يقصفني مدائحَ بالرئيس ميشال عون وشتماً بالرؤساء الآخرين، وبرياض سلامة. وأنا أختنق برائحة فمه.
في اليوم الثاني: سيارة يابانية جيدة، وسائق في خمسيناته غير حليق، رثّ الملبس والمظهر. وحال المقاعد بالغة الاتساخ. في البداية كان منشغلاً بهاتفه، ما كاد يعرّضنا مراث ثلاث لحادث اصطدام. ثم بغتة، التفت صوبي إلى الوراء: “حضرتك محامي؟”. النفي لم ينفع، أو هو لم ينتظر إجابتي وبدأ قصته. يعرف رجلاً عجوزاً يملك عشرين عقاراً ولديه مشاكل قانونية عالقة بالمحاكم. وأنه (أي السائق) يدبر مكيدة مع محام للاستفادة من العجوز المسكين: “رح أقبر الفقر”. قال لي السائق متبجحاً. وأكمل: “يا أستاذ، موتونا من الجوع الحرامية الكذابين السراقين. السياسيون عندنا بلا أخلاق”. هذا السائق الذي أباح لي أنه على وشك إنجاز عملية نصب، أدلى بدرس مفحم في الأخلاق السياسية
في اليوم الثالث: سائق يستمع إلى إذاعة قرآنية، بجواره شاب يعتمر قبعة بايسبول. ويبدوان على معرفة ببعضهما البعض، طالما أنهما منهمكان بالنميمة عن شلة أصدقاء. الشاب
عالي الصوت على نحو مزعج، وينم عن قلة اللباقة. ويبدو أنه يتعمد ذلك،
متشاوفاً بلهجته الفاقعة التي لها صدى سيء في نفوس أغلب اللبنانيين:
لهجة علوية سورية يتضخم فيها حرف القاف ويتصلب بين الكلمات
كحجر على كتلة رملية. وهذه اللهجة في لبنان لها إحالة واحدة: ضابط مخابرات سوري كريه ومتسلط.
ما عزز هذا الانطباع تجاه الشاب، الذي يبدو تعسفياً وتعميماً عنصرياً أحياناً،
هو البذاءة المفرطة في كلامه: شتائم مقذعة وتجديف وسباب للذات الإلهية، مردفة مع مطلع كل جملة “وحق الإمام علي..”.
واستكمل الشاب استعراضيته، الذي تشجعه الضحكات الرنانة للسائق،
بأن رفع هاتفه وأرسل الرسالة الصوتية التالية: “أنا مو فاضي كل دقيقة اتغزّل فيكِ..
هلقتني بوصل وببسطك”. والتفت صوبي مبتسماً غامزاً: “والله يا أستاذ هالبلد
حلو بس لولا العرصات يللي بحبو أميركا”.
في اليوم الرابع: سائق ضخم متجهم، بمنتصف ثلاثينيته، ينطلق برعونة بين السيارات
متسابقاً مع الدراجات النارية. وبلا أي مقدمات: “عندي ولدان. عبّيت بنزين بـ400 ألف.
ربطة الخبز بـ12 ألف.. و.. و”. صمتُّ ولم أعلّق. ثم مجدداً يفتح فمه سائلاً إن كنت سأنتخب.
منعاً لفتح الحديث، أجبته “لا أعرف”. شعر بفشل المحاولة، فناور وقفز إلى حديث آخر:
“أنظر، شرطيات في شارع فرن الشباك. نساء ينظمن السير؟ يعني خربت الدنيا”.
جملة تعبّر تماماً عن سوية هذا السائق وعقليته. تخيلت فوراً نمط علاقته بزوجته.
وهنا أيضاً تمسكتُ بصمتي. فعاد إلى كلامه الأول عن الفقر ليقول كمن قرر
الانتقام مني ومن سكوتي: السرفيس بـ40 ألف ليرة (وليس ثلاثين ألفاً المعمول بها).
أراد ببساطة أن “يسرقني” أو يستغبيني. لكني هززت رأسي موافقاً، طمعاً بشراء صمته.
في اليوم الخامس: أدخل السيارة في الدقيقة التي كانت فيها المذيعة تسأل: سماحة الشيخ نعيم قاسم..
ورحت أنا، والسائق طبعاً، نستمع طوال أكثر من عشرين دقيقة
لهذا الدفق المذهل والواثق والقوي لتصريحات وإجابات سماحته.
وشعرت بالطمأنينة تغمرني لمستقبل هذا البلد وشعبه. طمأنينة
لا يشعرها إلا ذاك الغارق في تنويم مغناطيسي أو المستلقي في نومه الأبدي بين القبور.