“حماية” سلامة تُهدد المصارف اللبنانيّة بعقوبات كاسحة
لا يبدو أن الأجهزة القضائيّة الأوروبيّة تكترث كثيرًا لمحاولات اللفلفة المحليّة، التي تقوم بها عدّة أطراف لبنانيّة لتأجيل التعامل مع ملفّات رياض سلامة المفتوحة في المحاكم اللبنانيّة. فخلال الأيام الماضية، توالت التطوّرات التي تدل على أن الملف بات على نار حامية في المحاكم الأوروبيّة، بما ينذر بمزيد من التصعيد القضائي، وصولّا إلى قرارات حجز في دول أوروبية جديدة على ممتلكات الحاكم وشقيقه، والحلقة التي ساعدته في العمليّات الماليّة المشتبه بها في أوروبا.
أمّا أهم ما في الموضوع، فهو أنّ المصارف اللبنانيّة نفسها باتت في عين العاصفة، وتحت طائلة عقوبات دوليّة قاسية قد تواجهها، على خلفيّة تمنّعها عن تسليم داتا الحسابات المصرفيّة المرتبطة بشقيق الحاكم رجا سلامة. باختصار، مشكلة المصارف مع تسليم داتا رجا سلامة لم تعد مع جان طنّوس، بل مع النيابات العامّة الأوروبيّة ذات اليد الطويلة، والقادرة على فرض ما يلزم من حصار وحجوزات ماليّة على المصارف الممتنعة عن التعاون مع التحقيقات.
طلبات إضافيّة
في خطوة منسّقة ومدروسة ما بين الأجهزة القضائيّة في ألمانيا وفرنسا وسويسرا ولوكمسبورغ، تلقّت النيابة العامّة في لبنان من المحققين في هذه الدول، ومنذ بداية الشهر الحالي، المزيد من طلبات التعاون التي أصرّت على الحصول على داتا الحسابات المصرفيّة المرتبطة برجا سلامة. وهو ما بدا كمحاولة لحشر القاضي غسان عويدات الذي يرفض حتّى اللحظة إجبار المصارف اللبنانيّة على تسليم هذه الداتا. مع الإشارة إلى أن هذه الطلبات باتت تُعنى بستّة مصارف لبنانيّة متورطة بالتحويلات التي قام بها شقيق حاكم مصرف لبنان من بيروت، وهي بنك البحر المتوسّط، وبنك عودة، وبنك مصر ولبنان، وبنك الاعتماد اللبناني، وبنك سردار، بالإضافة إلى بنك الموارد
ومنذ دخول القضاء اللبناني على خط التحقيق في قضيّة تحويلات حاكم مصرف لبنان، تبلّغت المصارف من القاضي جان طنّوس –الذي يتابع الجانب اللبناني من الملف بالتنسيق مع الأوروبيين- طلب تسليم هذه الداتا، التي لا تخضع لمبدأ السريّة المصرفيّة لارتباطها بتهم الإثراء غير المشروع. إلا أنّ المصارف الستّة تمنّعت عن تسليم هذه الداتا، فيما حال القاضي غسّان عويدات دون فرض استلام الداتا من المصارف الستّة بالإكراه، عبر المداهمات. وبذلك، لم يكن بإمكان القاضي طنّوس تقديم هذه المعلومات للمحققين الأوروبيين، حسب مضامين كتب التعاون الأوروبيّة التي تلقاها لبنان.
تهديد صريح للمصارف اللبنانيّة
في كل الحالات، وحسب مصادر مصرفيّة متابعة للملف، تبلّغت المصارف الستّة من عدّة دول أوروبيّة بشكل مباشر، وعبر وسطاء متخصصين في عمل الاستخبارات الماليّة، أن استمراريّة عمل المصارف اللبنانيّة المعنيّة بالملف ستكون على المحك، في حال استمرار التعنّت في وجه طلبات تسليم هذه الداتا الحسّاسة. لا بل تبلّغت المصارف الستّة رسالة صريحة مفادها أن طلب تسليم الداتا، الذي تلقّته المصارف عبر القاضي جان طنّوس، يمثّل وبشكل مباشر طلبات المحققين الأوروبيّين، الذي يصرّون على استكمال ملفّاتهم عبر الحصول على الداتا المصرفيّة اللبنانيّة، من خلال القضاء اللبناني. وبذلك، فعلى المصارف اللبنانيّة أن تتعامل مع طلبات طنّوس على هذا الأساس، وأن تتوقّع تبعات تعنّتها في وجه طنّوس من هذه الزاوية.
ما الذي يعنيه هذا التهديد الأوروبي إذًا، وخصوصًا حين يأتي من قبل جهات معنيّة بعمل الاستخبارات الماليّة؟ باختصار، تمتلك المصارف اللبنانيّة في الراهن ما يُقارب 4.8 مليار دولار من الموجودات الخارجيّة المودعة في المصارف المراسلة، أو الموجودة على شكل استثمارات ماليّة في الأسواق العالميّة. وهذه الموجودات المرتبطة بأي مصرف لبناني متمنّع عن التعاون في هذه القضيّة، يمكن أن تكون تحت طائلة الحجز في حال اتجهت الأجهزة القضائيّة الأوروبيّة إلى ملاحقة هذا المصرف. بل وأكثر من ذلك، من الممكن أن تكون علاقة هذا المصرف بالنظام المالي مهددة، بمجرّد تعريض علاقته بالمصارف المراسلة للخطر. بمعنى آخر، كلفة الامتناع عن التعاون في ملف حاكم مصرف لبنان ستكون تهديد قدرة هذه المصارف على ممارسة أبسط الأعمال المصرفيّة البديهيّة، بما فيها تلك التي ترتبط بتلقي الدولارات الطازجة وشحن الأموال وإجراء التحويلات.
التحقيقات الآوروبيّة تتوسّع
في الدول الأوروبيّة الأربعة، فرنسا وألمانيا وسويسرا ولوكسمبورغ، تتوسّع التحقيقات
في جميع الاتجاهات، بما فيها تلك التي تتعمّق في معطيات جديدة، كشفت أن
شركة فوري خالفت القوانين المحليّة اللبنانيّة، عبر ممارسة أنشطة وساطة ماليّة
معيّنة من دون امتلاك التراخيص القانونيّة اللازمة لذلك. كما تتوسّع التحقيقات
لإثبات أن حاكم مصرف لبنان، ومن موقعه وصلاحيّاته في المصرف المركزي، أعطى شركة شقيقه معاملة تفضيليّة
سمحت بمنحها عقد الوكالة عن المصرف المركزي في بيع المنتجات الماليّة،
فيما حُرمت شركات أخرى مرخّصة وذات مصداقيّة من هذا العقد، الذي يسمح
بجني مئات ملايين الدولارات كعمولات مجّانيّة وغير مبرّرة. وهذه النقطة بالتحديد
، تبطل الحجّة الذي حاول وكلاء الدفاع عن سلامة تقديمها، والتي تعتبر أن العقد الموقع
بين شركة فوري ومصرف لبنان كان عقداً غير حصري، ولا يعطي أي معاملة تفضيليّة أو خاصّة للشركة.
على خط موازٍ، تستمر التحقيقات الفرنسيّة بنبش تاريخ عقود إيجار “مكتب باريس”،
الذي استأجر بموجبه مصرف لبنان شقة باريسيّة فاخرة مملوكة من شركة مسجلة
بإسم صديقة الحاكم الأوكرانيّة آنّا كوزاكوفا. وهذه التحقيقات، تتركّز في الوقت
الراهن على تجديدات عقد الإيجار المتتالية، التي سمحت تدريجيًّا بزيادة قيمة
الإيجار الذي استفادت منه كوزاكوفا إلى حدود النصف مليار يورو سنويًّا،
على حساب ميزانيّة مصرف لبنان، وهو ما يتجاوز سبع مرّات قيمة الإيجار المنطقيّة المحددة حسب الخبراء العقاريين الفرنسيين.
في كل الحالات، من الواضح أن الخناق ما زال حتّى اللحظة يضيق على حاكم مصرف لبنان
وشركائه في الساحة الأوروبيّة، بمن فيهم حلفاء الحاكم من المصرفيين، الذين حاولوا
عرقلة التحقيقات عبر التمنّع عن تسليم كشوفات الحسابات المصرفيّة. وبمعزل
عن العراقيل التي تم وضعها خلال المرحلة السابقة، من المؤكّد أن النبرة الصارمة
المستجدة التي تتعامل من خلالها الأجهزة القضائيّة الأوروبيّة مع المصارف اللبنانيّة،
ستترك أثرها على مستوى تعاون المصارف مع التحقيقات، باعتبار أن خوف المصارف
من المحاكم الأوروبيّة قد يفوق خوفها من حاكم مصرف لبنان نفسه.