ضوءٌ في الخيام ينيرُ وطنًا
على مدى ربع قرن وثّقَ روبرت فيسك مأساة لبنان. حصّة الأسَد من عمله التوثيقي كانت لوصف وحشيَّة التعذيب في معتقل الخيام. أساليب التّعذيب كانت أكثَر إبداعًا من
تلك التي كانت تُعتَمَد في أوشفيتز وغوانتنامو وألكاتراز. الإسرائيلي مشرِفًا على التّحقيقات وجيش لحد منفّذًا للعقوبات. محكمة العدل الدوليَّة تحتفظ بالوثائِق التي تُدين. الشين بِت أيضًا.
الإفلات من العقاب والتنصّل من المسؤوليَّة
سِمَتا السياسَة الإسرائيليَّة. إذا ما تحقّقت العدالة
في هذا الملفّ يدخل كلّ المسؤولين الإسرائيليين إلى السّجون.
دُمِّرَ معتَقَل الخيام خلال عدوان 2006 لتدمير الدّليل. تمّ تسويته بالأرض. الصّعق بالكهرباء ورشّ الملح على الجراح المفتوحَة نموذجان فقط للتذكير بأنياب الوحش.
بالطّبع هذا المقال بمثابَة ذبابَة إضافيَّة لإحداث طنين
في أُذن العدالة الدوليَّة الصمّاء.على كلّ كلماتنا
في هذا العيد التحوّل إلى ذباب ليقوى الطّنين.
الأهم أنَّ صَوتَ أنينَ معتقلٍ واحدٍ فقط في الخيام
بإمكانِه تغيير مجرى التاريخ. كيف إذا كان الشهداء الأموات والأحياءُ بالمئات؟
وحدهم هؤلاء الشهداء والجرحى والمعاقون الذين
فقدوا طرفًا أو قطعة من جسدِهِم، وحدهم الشهداء،
الأحياء منهم والأموات صنَعوا لبنان في تاريخه الحديث.
ألا ننقطَع أبدًا عن التذكير بهذه الحلقات التي يتشكَّل منها تاريخنا منذ 22 سَنَة يتيح للأجيال القادِمَة تزويدَها بذاكِرَة للكرامة. شهداء الخيام مثلهم مثل الآلاف الذين استشهِدوا في مواجهة
الوحش حقنوا دماءً زكيَّةً في شرايين الوطن اللبناني. حقنوها قربانًا على مذبَح الحريَّة. بإمكان الإعلام أو بعضه أن يحاول مسحها أو غسلَها أو تنظيفَها بكلّ المساحيق ولكن من يستطيع أن يزيل نقطة دم واحدة خرجت من جسد
مقاوم لتغسل لبنان؟ هاتوا لي مسحوقًا واحداً!
لستُ تعيسًا في عيد التحرير. أنا مواطِن سَعيد جدًّا في أيّار من كلّ سنة. كلّ ما سوى الشهداء هو أضغاث أحلام ومُعتِم إلى حدّ الرّتابَة. سعيدٌ لأنَّ كل من قَضى في مواجهة الوحش يستأهل أن يقبَلَه الله ويقبّلَه على
ندوبِ جراحه التي حمَلَها معه إلى رحابِ الله.
واسِعَة قبور الشّهداء في يوم التحرير وفيها ضوءٌ يكفي لإنارَة وطن بكاملِه. سعيدٌ أيضًا لأني متيقِّنٌ أنَّ هؤلاء الذين باعوا جماجمَهم لإلهٍ يحبّهم يموّهونَ عن وحدَتِهِم داخل مثاويهِم بالإستماع إلى أكاذيب تجّار السياسَة وهزالَةِ خبثِهِم وسخافَةِ تصاريحِهِم وفداحة صفقاتِهم. الشّهداء يتندّرون على العملاء في الخامس والعشرين من ايّار.
موت الشهداء ليسَ موتًا. إنه وقتٌ مستَقطَع يتمتَّع به الشّهيد بينَ ضفّة حياة وضفّة حياة أخرى. قدرُهُم ابتَسَمَ لهم عندما جنَّبَهُم البقاء مدّة أطوَل مع وجوه بشعَة بلا سيادَة ولا حريَّة ولا كرامَة. كيفَ لا يطلبُ الشّهيدُ وقتًا مستقطَعًا يريحُهُ من هؤلاء الفريسيين؟
شهداء الخيام وزملاؤهم من المقاومين وجنود الجيش اللبناني والمواطنين الأبرياء هم علامات الحبّ اللامتناهي للبنان. موتُهُم ذاكرة لبنان المقاوِمَة للسّهو والنسيان.
لم يُخلَق الشّهداء ليستَشهِدوا. ولكن إذا
تطلّبّت البطولَة أن تقف على رِجلَيك حينَ
يُطلَبُ منك أن تركَع وأن تثور عندما يُطلَبُ
إليك أن تَخضَع وأن ترفضَ الذلّ حين يطلَب
إليك أن تعيشَ مذلولًا وأن يطلَبَ إليك تقديم وجبة طعام للوحش من لحمك فتواجه الوحش بأظافِرِك فالشّهداء يستحقّون نيشان الشهادة. شهداء لبنان في مواجهة الوحش يسّروا لنا أن نتعرّفَ على جَمال الحريّة وأن نصافِحَها وجهًا لِوجه.
شهداء المقاومة والتحرير حوّلونا إلى أمَّة
بعد أن كنّا ساحة. أعطونا ذاكرة جماعيَّة بعد
أن كنّا ذاكرات فرديَّة متنافِرَة. أعطونا ألا
ننسى كلّ يوم صبحًا وظهراً ومَساءً أناسًا
عاديين جدّاً صَنَعوا لنا تاريخًا غير عادي.
من الضّروري في هذا العيد ألا نهملَ
عمليَّة تناسل تاريخنا حتّى لا ينخر النسيان جسد
حياتنا الوطنيَّة لأنَّ الشعوب التي تنسى
تاريخها محكومَة بتكرار مآسيها.