الجوع في لبنان مدخلاً للتقسيم؟
أدّت وتؤدّي إلى حروب أهلية ساخنة وباردة. وفي كل محاولة جادّة لكتابة التاريخ اللبناني، ولو خلال المئة سنة الأخيرة، تخرج الى السطح قراءات مستندة الى سرديات معدّة من الجماعات اللبنانية
على اختلاف معتقداتها، سواء كانت دينية أو طائفية أو حتى عقائدية. لكن السؤال يبقى هو ذاته: هل من إمكانية لخلق صيغة تحكم لبنان بتوافق يجعل فكرة المواطنة تتقدم على أي شيء آخر؟
في هذه الفترة من حياة لبنان، عاد الانقسام السياسي الى حدّته التي عرفناها قبل خمسين عاماً، على شكل توتّرات قادت إلى حرب أهلية قاسية. وما التوتر القائم حالياً،
والذي شهدنا فصلاً كبيراً منه عشيّة الانتخابات النيابية الأخيرة وأثناءها، سوى إشارة جديدة وجدّية إلى أن الخلاف حول الهوية سيكون مفتوحاً على أبواب أكثر توتراً خلال الفترة المقبلة.
والمشكلة، أنه في ظل عجز قوة طائفية أو غير طائفية
عن القيام بانقلاب يمسك البلاد كلها تحت قبضة قاسية،
فإن المرجّح هو أن يدخل اللبنانيون في مرحلة جديدة من
القهر والظلم والاتهامات التي لا تقود إلا إلى حرب أهلية جديدة.
صحيح أن فكرة الحرب الأهلية تحتاج إلى عناصر كثيرة،
ولو توفرت الحافزية. وليس معلوماً إن كان الخارج، الذي يهتم بلبنان وفق مصالحه، على استعداد لرعاية جولة جديدة من الحرب الأهلية اللبنانية،
وخصوصاً أن الغرب – تحديداً – ينظر إلى انعكاسات مثل
هذه الحروب على المنطقة وعلى نفوذه في المنطقة وعلى أمن إسرائيل قبل أي شيء آخر. وكل المؤشرات القائمة
لا تقود الى استنتاج بأن هذا الغرب يريد ذهاب لبنان الى حرب أهلية واسعة. لكنه لا يقبل الإقرار بالمتغيرات النوعية التي شهدها لبنان في العقود الخمسة الماضية،
وتحديداً تبلور قوى وازنة تعمل خارج محوره، بل تتحدّاه
وتقاتله وتظهر استعداداً للتخلي عنه إذا تطلّب الأمر.
ويأخذ الغرب في الحسبان أن حلفاءه في لبنان الذين
تراجع نفوذهم مع نهاية الحرب الأهلية عام 1990، لا
يملكون اليوم القوة الكافية لادّعاء القدرة على
خوض معركة جديدة تتيح تحقيق نتائج نوعية.
ما يعني أن الغرب مضطرّ إلى البحث مع حلفائه في لبنان
في الصيغة البديلة. وهي الصيغة التي تبقي لبنان بلا
استقرار أمني أو سياسي أو اقتصادي، وتبقيه أسير حسابات للغرب دور بارز فيها.
وهذا ما يجعل الصراع بين اللبنانيين المختلفين يأخذ شكلاً طائفياً أكثر حدّة من أي وقت مضى. وقد أعطتنا الانتخابات النيابية الأخيرة مثالاً صارخاً على هذا الاصطفاف.
إذ نجح وليد جنبلاطـ خلال أشهر قليلة في إقناع الدروز،
أو معظمهم، بأن جحافل الجيش السوري تتقدم صوب
المختارة، وأن حزب الله ومن خلفه الشيعة يستعدّون
لاجتياح المناطق الدرزية، وجعل كل درزي لا يبايعه عميلاً متآمراً على مستقبل الطائفة.
وللأمانة، لم ينجح في تثبيت زعامته فحسب، بل في جعل قاعدته الطائفية تقبل بمن اختارهم لهم من ممثلين، ودفعها الى الإقرار مسبقاً بتقديم فروض السمع والطاعة لوريثه تيمور.
الأمر نفسه شهدناه عند الشيعة. فقد تحوّلت الحملة المحلية والإقليمية والعالمية ضد حزب الله الى عنصر مركزي في معركة شدّ العصب لمواجهة هذه الحرب.
ولم يكن مستغرباً أن ينجح حزب الله، بالتعاون مع حركة أمل، في حصد كل المقاعد الشيعية في البرلمان، وبحجم من الأصوات لا يقبل أي تشكيك. وحتى الخروقات التي شهدتها اللوائح المدعومة من الثنائي نفسه،
اقتصرت على مواقع كان حزب الله يعرف مسبقاً أنه لم يكن قادراً على توفير الحماية أو ضمان النجاح لها. لكن النتيجة الفعلية تمثّلت في تصويت غالبية ساحقة من الشيعة لمصلحة مرشحي الثنائي.
ولم يكن خافياً على أحد أن قسماً من التصويت جاء كردّ فعل على ما وصفه أنصار الثنائي بأنه استفزاز مكثّف مارسته القوى الأخرى (اقرأ: الطوائف الأخرى).
وبدا أن الفروقات الطبيعية بين فريقَي الثنائي لم تظهر الى العلن أو تتحول الى نقاط خلافية ليس بسبب التنسيق بين الطرفين، بل لكون العقل الجماعي للشيعة تصرّف على أساس وجود خطر يشملهم جميعاً،
وصولاً الى درجة أن الغالبية الساحقة من الشيعة تصرّفت على أن الهجوم على سلاح حزب الله إنما هو هجوم عليهم كفئة اجتماعية أو سياسية.
عند السنّة، لم يكن التصويت خارج الصراع نفسه. صحيح أن انسحاب الرئيس سعد الحريري ترك تداعياته على نسب التصويت وعلى التحالفات التي قامت،
واستفاد البعض من الاعتكاف للفوز بمقاعد في أكثر من منطقة، إلا أن المزاج السنّي العام والحملات التي خاضها خصوم الحريري أو مدّعو وراثته ركّزت أيضاً على بعد طائفي ومذهبي.
فكان شعار أن التصويت يهدف إلى مواجهة «هيمنة حزب الله» أساسياً عند الجميع، الذين اضطرّوا إلى بعض التمايز في اللهجة ضد المسيحيين،
سواء ممن خاضوا الانتخابات ضد التيار الوطني الحر أو
من خاضوها ضد التحالف مع القوات اللبنانية، لأن الحصيلة ا
لفعلية تمثّلت في كون الغالبية السنّية مارست فعل الاعتراض على المسيحيين كما على الشيعة،
مع فارق أن حدّة الخطاب ضد الشيعة كانت أعلى من حدّته ضد المسيحيين.
على أن التوتر الذي يحتاج الى تدقيق يسكن في المزاج المسيحي. ليس أمراً عابراً أن تسود الأوساط المسيحية موجة استنكار لما يطلق عليه «محاولة تغيير وجه لبنان».
هي موجة أخذت شكلاً مختلفاً في تسعينيات القرن الماضي، عندما واجه المسيحيون محاولة العرب والغرب لتثبيت رفيق الحريري – ومن خلفه السنّة –
وريثاً للقومية اللبنانية المتحالفة مع الغرب ومع حلفاء أميركا من العرب. لكن الأمر أخذ شكلاً سياسياً انتهازياً في 14 آذار عام 2005، عندما أظهرت قيادات مسيحية حزناً غير حقيقي على مقتل الحريري، وأحسنت – كما الغرب – في استخدام الجريمة في المعركة الرئيسية المتصلة بإنهاء الوجود السوري في لبنان، والشروع في معركة ضد سلاح المقاومة.
وعندما عاد الانقسام على مواقع السلطة وعقد التحالف الرباعي في تلك المرحلة، بدا أن الغالبية التي دعمت ميشال عون إنما تصرّفت على أن التحالف القائم مع الشيعة والسنّة لا يمثّل المزاج المسيحي.
وحتى عندما عقد الرئيس ميشال عون اتفاقاً مع حزب الله
عام 2006، لم يكن يخفي مصلحته في عقد تحالف مع قوة
مسلمة كبيرة لكسر الحصار ومعركة عزله من بقية الأطراف.
وخاض التيار الوطني الحر على مدى عشر سنوات، حتى
وصول العماد عون الى بعبدا، معركة «استعادة الحقوق»،
وهي في جوهرها معركة تعبّر عن سعي التيار الى استعادة
الدور المسيحي الكامل في السلطة، من خلال طبيعة التمثيل في المجلس النيابي والتمثيل الوزاري،
وصولاً الى موقع رئاسة الجمهورية. وقد تحوّل هذا الشعار الى عنصر إرباك للمسيحيين المناهضين للتيار الوطني، ممن خاضوا بقيادة القوات اللبنانية معركة مكثفة ومتواصلة،
بدعم مطلق من أميركا والغرب وعرب أميركا، ضد
سياسة التيار الوطني الحر باعتبارها «تخالف المزاج التقليدي»
للمسيحيين. لكن هذا الفريق الذي يريد تمرير مشكلته مع
المسلمين بطريقة مضحكة بالقول إن الخلاف هو مع حزب الله حصراً،
لم تمنع انتشار مزاج قوي لدى قسم غير قليل من المسيحيين ينادي باللامركزية الإدارية، لكن مع ارتقاء في التوصيف لهذه المركزية ومنحها بعداً سياسياً. وما النقاش حول تقسيم بلدية بيروت سوى مدخل لهذا التحدي.
في سنوات سابقة، سادت الأوساط الشعبية موجة
مخالفة للحقيقة تقول إن المسلمين لا يلتزمون بدفع ا
لضرائب والرسوم كالمسيحيين، وإن الإنماء في
مناطق المسلمين أكثر منه في المناطق المسيحية،
وصولاً الى استفاقة مفاجئة لمجموعات تمثّل بعض
النخب في الجامعة اليسوعية على وجه التحديد، وقوى وأطر
نقابية ومرجعيات دينية، تتحدث عن ضرورة إنتاج نظام
مختلف. ومع الانهيار الكبير الذي أصاب البلاد وأدخل
الشعب في قحط وجوع، ارتفع خطاب هذه الفرق التي
تعتقد بأن تقسيم العمل الإداري والبلدي يسمح لفريق من اللبنانيين بأن يخرج من دائرة العقوبات المفروضة على لبنان بسبب سلاح المقاومة،
ويسمح لهذه القوى أو المجموعات بأن تحصل على دعم
خاص من جهات خارجية لا تريد أن تذهب الأموال الى جهات أخرى.
يحصل ذلك في ظل اضطرار القوى الأكثر نفوذاً داخل الطوائف
الى اعتماد سياسة دعم لقواعدها الطائفية لمواجهة الأعباء الناجمة عن الأزمة الاقتصادية.
وحصل ذلك بشكل واضح عند الشيعة والدروز، وبشكل أقلّ تفاعلاً عند المسيحيين، بينما بقي السنّة ضحايا الانهيار الذي أصاب الزعامة السنّية وقرار السعودية عدم الاهتمام بلبنان.
اليوم، وفي ظل الانهيار المتسارع للدولة ومؤسساتها، وارتفاع حجم
حاجات الناس في كل القطاعات، من المؤسسات المركزية
في الجيش وقوى الأمن، الى توفير الكهرباء والمياه والخبز
وخدمات الاتصالات وخلافها، فإن التوتر يأخذ شكلاً أكثر حدّة،
ومعه يرتفع الحديث عن الفدرالية الإنمائية على قاعدة «لتدبّر
كل جماعة أمورها بنفسها». ومع أن مبدأ التكافل الاجتماعي
يأخذ في الحسبان هذا الأمر، فإن مخاطره تكمن في أن
تعميمه وتثبيته كخيار سيؤدي الى انهيار ما تبقى من
الدولة المركزية، وإلى ظهور دويلات هجينة، سرعان ما
تأكل بعضها بعضاً كما علّمنا التاريخ القريب وليس البعيد…
ليس منطقياً أن يتوقّع أحد جلوس المجموعات أو الجماعات اللبنانية قريباً جداً حول طاولة لإعادة النظر في صيغة الحكم الأمثل.
لكن ليس منطقياً الاستسلام لهذا المنطق الذي سيجعل لبنان
يخسر خلال سنوات قليلة أكثر من ربع أبنائه، بينما يبقى
مفتوحاً لكل أنواع التدخلات الخارجية الهادفة الى جعل اقتتال
اللبنانيين أداة لفرض استسلام هذا البلد للغرب وأعوانه.
في هذه الحالة، ثمّة من بيده القدرة على قلب الطاولة
ليس بوجه اللبنانيين، بل في وجه القوى الخارجية النافخة
في بوق الفتنة. وثمّة من نجح سابقاً وهو قادر على أن
ينجح في فرض الاستقرار من خلال دفع الغرب
الى فك الحصار، وإتاحة الفرصة أمام الناس لالتقاط الأنفاس.
وهي عملية ليست سهلة أو زهيدة الثمن، لكنها قد تكون ضرورية، من دون أن يتوقع أحد أنها ستقود الى تسوية خارج النظام الطائفي القائم.
المصدر: ابراهيم الأمين – الأخبار
لمزيد من الاخبار الرجاء الضغط هنا