“لن أترك قصر بعبدا إلاّ جثّةَ”
“لن أترك قصر بعبدا إلاّ جثّةَ”
ماذا تعني كرسي الرئاسة في بعبدا؟
سؤآل متعدّد الإجابات ومتنوّعها يحتاج أطروحة دكتوراه. لطالما حفلت المسألة بالإنتظارات والمفاجآت والحروب. يُعيدني السؤآل الى ال2007 حيث كنت بدعوةٍ إلى الكويت، وكان الجنرال إميل لحّود
(انتخب رئيساً للجمهورية في 13 اكتوبر 1998 وترأسها حتّى 23 نوفمبر 2007) يتابع حراكاً لإخراجه من قصر بعبدا. يومها اتّصلت به للإستئناس بقراره في تلك الفترة الوطنية الحرجة المتكررة مع غيره،
قبل إجراء مقابلة مع إحدى الصحف الكويتية. جاء جوابه قاطعاً: “لن أترك قصر
بعبدا إلاّ جثّةً”. يقولها أي رئيس للجمهورية بعد اختلال وانفلاش التطاول
والتهشيم وتشويه جوهر فصل السلطات. أسميتها الفترة الحرجة المتكررة
إذ لازمت كرسي الرؤوساء بتشظيات وعداوات مماثلة عبر انتقال العهود الرئاسية في لبنان قبل اتّفاق الطائف وبعده مع أنه لم يُطبّق ولم تترسّخ روحيته،لا في الممارسة ولا في النفوس.
كنت أحلم، عند كتابة هذا المقال، لو أستطيع أن أضع في الزاوية المخصصة
لصورتي لوحة فنيّة أمامي معبّرة أكثر من الكتابة، متمنيّاً فلشها على مساحة
هذا لبنان المتعب أي على ال 10452 التي يتنازع كراسيها زعماء الطوائف
عاجزين عن إعادة تركيب وطن طبيعي يقعدون فيه. تتصدّر اللوحة قصراً يبدو
ماذا تعني كرسي الرئاسة في بعبدا
وكأنّه من قصور رؤوساء الجمهورية الذين غادروه فارغاً من تاريخه القديم ليصير مسكوناً بمرارات الحكم والصلاحيات والحياة:
تحت درج القصر في اللوحة، نرى كرسي مخصّصة لرئيس الجمهورية لكنها عتيقة
ممزّقة مهملة مرمية تحت شجرة صفراء خريفية مهملة لم يتمّ تشذيبها أوتنظيفها
من الأوراق اليابسة منذ عقود. تحت الكرسي حقيبة جلدية سوداء مفتوحة فارغة
وممزّقة وإلى جانبها علبة سجائر فارغة وأوراق مبعثرة فوق درج مهتريء سفلي
يقودنا بأعشابه اليابسة نحو ملاجيء القصر. اللون الأصفر الميّت طاغٍ على قماشة
اللوحة قائلاً بالعربي الفصيح: “الجمهورية المقيمة في فصل الخريف “.
يتصور من يتمعّن بالمشهد بأنها كرسي لم يتغيّر خشبها ولا قشّها. ربّما تغيّرت
قماشاتها وفقاً لأذواق سيدات القصر أعني زوجات الرؤوساء اللواتي شغلن القصر.
ربّما تعود الكرسي الى ال1920 تاريخ إعلان دولة لبنان الكبير، مع أنّ هذا التاريخ
فرنسي الهوى والقش حفرته فرنسا في القلوب المؤمنة المتنازعة وأودعته ملامح “الأم الحنون”،
لفترةٍ تجاوزت النصف قرن، لكن الأحداث والمنافسات والصراعات والحروب
المتراكمة عبر هذا التاريخ بين زعماء الطوائف والعائلات منح بل دمغ لبنان
بكونه لا وجهاً عربيّاً وحسب بل بلداً عربيّاً أقرّ في مدينة الطائف بوثيقة دستورية
وبدستور جديد يدندن بأنّ “لبنان بلد عربي الهوية والإنتماء وهو وطن نهائي لجميع أبنائه”.
يا لهذه المقدمة الدستورية الغريبة الملامح والأهواء كم بقيت واقفة مبهمة على عتبات القصور وجافت الواقع والوقائع!
من سينتخب رئيس لبنان المفدّى؟
النواب أنفسهم الذين يشغلون قاعة البرلمان منذ ما قبل “التاريخين
الميلادي والهجري كما ألمح غامزاً أحد كبار السياسيين”، يمارسون فعل الإنصات وتنفيذ الإقتراع ثمّ الإصغاء لخطاب
القسم وتبادل التهاني وإظهار الميول والأفكار الموضّبة بالشروخات الوطنية
حول رئيس الحكومة المقبل والبيان الوزاري ومضمونه، أم السفراء والشخصيات
والمراقبون من ممثلي المنظمات الدولية فوق شرفة قاعة البرلمان أو”البلكون” بالفرنسية تحضيراً لرفع تقاريرهم للخارج ؟
وهنا كلمتان:
الأولى أنّ معظم سياسيينا يدّعون مجاهرين بالنديّة في علاقاتهم مع هذا الخارج،
والثانية خاصّة بالدولة العراّبة فرنسا التي يوصمها بعض الزعماء بالإستعمار
بينما هي الأم الحنونة التي غادرت جبل لبنان بشكلٍ ملحوظ وباتت تدلق
بحنانها في أقاصي الجنوب والبقاع سياسيا وتربوياً ومساعدات إجتماعية.
لستم ندّيون في علاقاتكم مع الخارج يا “سادة لبنان”. لنفتح معاً المراجع اللغوية العربية،
وسنرى بأنّكم لن توافقوا حتى أنفسكم بخطبكم وتصريحاتكم الشائعة بأنكم ندّيون. أعذروني. قد لا تعرفون حتّى تحريك مصطلح “النديّة” وفقاً لتلفظكم بها من على الشاشات:
ندّ بفتح النون تعني نَفَرَ وتَنافَرَ واخْتَلَفَ وذَهَبَ شارداً عن الطريق. ويقال ندّتْ الكلمة
بمعنى شَذّتْ وصَرّحَتْ بِالعُيوب وأسْمَعَت الآخَرَ القَبيحَ من القولْ وبالصّوتِ المرفوعِ
الذي يُطْلَقُ من فوقِ الأكَمَةِ أي التّلْ المُرتفعْ. أمّا الندّ بكسر النون، فتعني المَثَل أو النَظيرْ
أو التساوي مع الآخر. ولا أخال شعوبكم راغبة كثيراً في استمرار معزوفة الندّية بالفتح،
لا في العلاقات اللبنانية ولا مع العرب ولا مع العالم ولا في ممارستكم الحكم.
اللبنانيون الغارقون في العتمة والبؤس والفقر والجوع والديون والحاجات
البسيطة لم تعد تُغريهم أو تعنيهم القصور في”وطن الضرورات” والكراسي الرئاسية
العتيقة ولوحات انتظاراتكم المعلنة لثروات الغاز والنفط والسلطات
إيّاها مهشّمين فكرة الصناديق السيادية المحفوظة للأجيال القادمة ب”ندّيتكم” التي تكتب المستقبل لأحفاد أحفاد ذراريكم.
لمزيد من المعلومات اضغط هنا
ماذا تعني كرسي الرئاسة في بعبدا