ماذا عن ترسيم الحدود البحرية لسوريا مع تركيا وقبرص ولبنان؟
كتبت راغدة درغام في “النهار العربي”:
ترسيم الحدود البحرية لسوريا مع جيرانها أمرٌ بات يهمّ الدول العربية، لاسيما الخليجية وبالذات السعودية، لأنّ تأمين أمن البحر الأبيض المتوسط كمنطقة خالية من النزاعات مسألة ضرورية سياسياً، ولأنّ شرق البحر الأبيض المتوسط غني بالنفط والغاز، ومستقبله موضع اهتمام لأوروبا والولايات المتحدة وروسيا ودول آسيوية. تركيا معنية بالطبع بجيرتها البحرية والبرية مع سوريا لأسباب متعدّدة. قبرص أيضاً جارة مباشرة لسوريا، وهي راغبة بالترسيم البحري معها. لبنان موضع تركيز عربي نظراً للنقلة العربية النوعية نحو سوريا وجاذبية ترسيم كامل حدودها البحرية مع جميع جيرانها، كجزء من الرؤية المتكاملة لمستقبل سوريا وجيرتها.
دول منطقة الخليج تريد أن تؤدي دوراً في ترسيم الحدود البحرية لسوريا لأسباب اقتصادية وكذلك دبلوماسية واستراتيجية. فـ”المتوسط” غني بالنفط والغاز ومستقبله مهمّ لأوروبا. دول الخليج تريد أن تلعب دوراً محورياً بين أوروبا والدول العربية المعنية. فهي تملك الخبرة والإدارة والإمكانات المالية لاستخراج النفط والغاز عبر شركات عالمية. ثم أنّ المتوسط خط أساسي للغاز والنفط بين آسيا وأوروبا.
الفوائد، إذاً، استراتيجية، تدخل في نطاق الرؤية الأوسع، بحيث سيكون للدول الخليجية، لاسيما السعودية، موقع قدم في شرق البحر الأبيض المتوسط، وسيكون الغاز والنفط مصدر تنوّع مفيداً في الانتاج. الأهم، إنّ مسألة ترسيم الحدود البحرية لسوريا مع تركيا وقبرص ولبنان ستتمّ بالتنسيق والتفاهم مع وبين كل من روسيا والولايات المتحدة، حيث يتمّ تطبيق المنطق الجديد في التحوّل الجذري للدور العربي في معالجة مسائل المنطقة العربية.
هذه هي الرؤية الثورية بمفهوم الارتقاء غير المسبوق في تطوير الدور العربي، وفي الاستدارة العربية من مفعول به إلى فاعل أساسي في رسم تطلعات المنطقة العربية وأدوارها المركزية عربياً ودولياً. والعالم بأكمله يأخذ علماً بذلك.
ترسيم الحدود البحرية لسوريا لن يتمّ في إطار استفزازٍ لروسيا، وإنما في إطار التفاهم معها والإبحار الدقيق والذكي بين الولايات المتحدة وروسيا. فليس في ذهن السعودية وكل الدول العربية المعنية تجاهل مصالح روسيا في سوريا أو التعالي على المصالح الأميركية فيها. ما تريده هذه الدول هو الارتقاء بالمنطقة العربية إلى منطقة محورية في شرق أوسط خالٍ من النزاعات، وإلى منطقة تفهم أهمية التنمية المستدامة والحوكمة وتهيئة المستقبل لجيل جديد.
المنطقة العربية يافعة، وجيل الشباب فيها أكبر عدداً من الدول الأخرى في الشرق الأوسط، من إيران إلى إسرائيل. دخول دولة الإمارات ثم المملكة العربية السعودية مجال الفضاء يثبت عزم منطقة الخليج العربية على أن تكون فاعلاً في التطور والتطوير التكنولوجي. فهذه الدول دخلت النادي العالمي للذكاء الإصطناعي. ما أطلقته السعودية قبل خمس سنوات عبر مشروع “نيوم” كان سبّاقاً عالمياً في التنبّه إلى مستقبل الذكاء الاصطناعي، فعكفت السعودية على بناء مدينة بكاملها، تأخذ في الاعتبار قيادة الذكاء الاصطناعي. من الرياض وجدّة إلى الدوحة إلى أبوظبي ودبي، هناك مناهج تعليمية ومشاريع مشتركة مع أميركا وأوروبا وآسيا لتطوير الموقع العربي في عالم التكنولوجيا والذكاء الإصطناعي. وهذه ثورة الرؤية التي تقودها الدول الخليجية للمستقبل العربي.
الهدف ليس عزل المنطقة العربية عن بيئتها في الشرق الأوسط، أو عالمياً، وإنما هو التكامل معها بسلم وتطبيع وعدم الاعتراض على القرار السيادي لأية دولة عربية. فإذا أرادت الإمارات التطبيع مع إسرائيل، هذا شأن سيادي. وإذا قرّر المغرب التوقيع على تعاون تكنولوجي مع إسرائيل، لن تُصدر السعودية بياناً يعارضها في قرارها.
فالقرار الاستراتيجي هو احترام المصالح التنموية للدول بلا مزايدات عليها ولا هجوم ولا تخوين. هذا، في نهاية المطاف، يعني إضفاء الشرعية على خطوات الدول العربية التي تسير في اتجاه إزالة الخلافات والتهيئة لصلح ومصالحة في كامل الشرق الأوسط، مع إيران أو مع تركيا أو إسرائيل. وهذا هو الجديد الذي لم يكن وارداً في الماضي. إنّه قرار استبدال لغة العداء بلغة الحوار والإقناع، مقترناً بالدعم السياسي والاقتصادي والتنموي. والانفتاح على إعادة سوريا إلى الحضن العربي، أبرز مثال.
قادة الدول الخليجية لا يريدون المكابرة ولا توسيع بيكار العظمة بمفهومها القديم. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عكس ذلك. فهو اختار سبيل إحياء العظمة العثمانية كوسيلة لإثبات التفوّق وليس فقط إثبات الوجود.
الانتخابات الرئاسية رجّحت فوزه، عند كتابة هذا المقال. فإذا فاز، هناك رأيان حول ما سيفعل أردوغان بفوزه. رأي يقول إنّه سيقرأ التطورات الإقليمية وحجم المعارضة الداخلية، وسيحتاج إلى الاستقرار داخل البلاد ومع جيرته. وبالتالي، سيضطر إلى التأقلم وإلى تقليص طموحاته العثمانية. الرأي الآخر يقول، إنّ العكس هو الذي سيحدث، وسيزداد عنفواناً وصلابة، لاسيما أنّه يكون تخلّص من الأعباء الانتخابية.
فإذا قرّر أردوغان المكابرة، سيُقلق هذا الأمر حتى حلفاءه مثل روسيا، التي ترى خطورة في أن يفتح انتصاره أبواباً لا يمكن التنبُّؤ بها. روسيا في حاجة إلى أردوغانٍ يمكن التنبُّؤ به، وليس العكس، أما إذا خسر أردوغان، فإنّ طموحات تركيا ستكون أكثر واقعية وتأقلماً وتماشياً مع التطورات الإقليمية، وعلى رأسها التحوّل الجذري في المنطقة العربية والذي يتطلع إلى حلّ الأزمات المحلية والمشاركة في معالجة الأزمات الدولية، مثل أوكرانيا. بل أنّ الحرب الأوكرانية بحدّ ذاتها سنحت الفرصة أمام تنامي الأدوار العربية واستقلالية الدول الخليجية بسبب انشغال الولايات المتحدة وروسيا بهذه الحرب.
ما أثبتته القيادة السعودية هو قدرتها في المحافظة على علاقاتها التاريخية مع الغرب، كما صقلت علاقات بنّاءة مع الشرق. بدأت ببناء نظام عربي جديد مبني على البراغماتية وليس على الإيديولوجيا. وللمرة الاولى، بدأت المنطقة العربية بترتيب نفسها وحلّ مشاكلها بعيداً من التدخّلات الخارجية.
حتى دور الصين المهم جداً في توصّل السعودية وإيران إلى تفاهم تاريخي وتقديم نفسها ضامناً للتفاهمات، هو محفِّز وليس ناشطاً في فحوى التفاهمات. ما حدث في العدّ العكسي إلى قمّة جدّة ودعوة الرئيس السوري بشار الأسد إليها هو عبارة عن نموذج استقلالية القرار العربي- رغم التحفظات والانتقادات داخل البيت العربي- عن الأدوار الأميركية والأوروبية والروسية. إنّه نموذج البحث عن حلول من دون الاتكال المسبق على الأدوار الخارجية.
سوريا اليوم في مرحلة انتقالية فائقة الأهمية، وعبء إثبات حسن نوايا قيادتها يقع على أكتاف بشار الأسد الذي وضعته القمّة العربية في جدّة أمام الامتحان. على الأسد اليوم أن يكون ذكياً وألاّ يفرّط بالتذاكي. فإما يختار أن يسير بسوريا الجديدة وفقاً للتوقعات منه، بخطوات مدروسة على الصعيد الداخلي والدستوري كما على صعيد إعادة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم- وهذا سيعطي الذخيرة للجهود العربية لأن تسير سوريا نحو رفع العقوبات عنها، وبدء إعادة الإعمار، وترسيم حدودها البحرية، والاستفادة من الثروات. وإما يقرّر التذاكي، فيوقع نفسه في مصيدة الفشل الذريع ويستمر بمسيرة تدمير سوريا.
بشار الأسد لم يلتزم بعد تنفيذ المطالب الواضحة وتلك غير المباشرة، مثل دور سوريا في الحدّ من تهريب المخدرات إلى الجزيرة العربية، لاسيما الكبتاغون. اللجنة الوزارية العربية المشتركة المعنية بالشأن السوري، والتي تضمّ السعودية ومصر والعراق والأردن ولبنان، اجتمعت في القاهرة قبل قمّة جدّة، حيث تمّ الاتفاق على البنود، وهي، إلى جانب إجراءات كبح تهريب المخدرات، إعادة فتح الحوار حول عودة النازحين إلى مناطق آمنة في سوريا. وقد بدأ العمل على تحديد الأماكن الآمنة بالتعاون مع الأمم المتحدة.
أما إعادة الإعمار، فلها شروطها، من مسألة الكبتاغون إلى عودة النازحين إلى ملف الموقوفين في السجون. ما يحدث اليوم هو العمل على مأسسة العلاقات مع سوريا وما بينها وبين دول الجوار. الحكومة السورية لم تطرح أوراقها على الطاولة بعد. رحّبت بالخطوة، إنما من دون أن تتبنّاها أو ترفضها من ناحية التفاصيل.
لبنان تبنّى استراتيجية وطنية لمكافحة تهريب الكبتاغون إلى أية دولة، وذلك عبر ضبط الحدود والمرافئ اللبنانية وكبح التهريب إلى دول الخليج. هذا نظرياً، على الأقل. إنما هناك إجراءات تتمّ بالتعاون مع مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الجرائم والمخدرات UNODC. ناحية المخدرات بالذات ستساعد في التبرير العربي للانفتاح على سوريا. لبنان يتعاطى مع سوريا عبر اللجنة الوزارية المشتركة وعبر جامعة الدول العربية، وهو يعتمد مبدأ “إذا جاري بخير فأنا بخير”.
قمّة جدّة أحيت جامعة الدول العربية لتؤدي دوراً متجدّداً وجديداً غير الأدوار التقليدية في زمن الإيديولوجيا. إنّه إعادة تفعيل لدور الجامعة بتبنٍ ودعم سعودي وبوزن الخليج. إنّه زمن غير زمن سيطرة مصر على جامعة الدول العربية واعتبارها حكراً لها.