مَن تراجَع الحزب أم التيار
مَن تراجَع الحزب أم التيار
لم يشكِّل الإعلان عن عودة التواصل السياسي بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» مفاجأة سياسية لأيّ من متابعي الشأن السياسي في لبنان، بل كانت هذه الخطوة متوقعة في أي وقت من الأوقات.
تؤكّد الوقائع السياسية انّ «حزب الله» قرّر قطع العلاقة مع «التيار الوطني الحر» عندما رفض تبنّي مرشحه الرئاسي، والحزب نفسه عاد وتراجع عن قراره من دون ان يتراجع التيار عن موقفه الرئاسي، وهذا يعني إدراك الحزب عدم قدرته على انتخاب رئيس من دون التيار، وإدراكه عدم مصلحته مواصلة القطيعة معه والتي انعكست سلباً عليه من زاوية تحويل الصراع إلى صراع مسيحي – شيعي للمرة الأولى منذ العام 2006، بعدما كان يَجهَد رئيس التيار على إشعال ساحات المواجهة مع خصومه المسيحيين والسنة والدروز، بما يريِّح الشيعية السياسية.
وتؤكّد الوقائع السياسية أيضاً انّ «التيار الوطني الحر» احتفظَ بخط الرجعة مع «حزب الله» مُميّزاً دائماً بين الخلاف الرئاسي مع الحزب، وبين دعمه الثابت للمقاومة، وهذا ما أدى إلى اقتصار تَقاطعه مع المعارضة على الجانب الرئاسي لا السيادي، لأنّ التيار على قناعة بأنّ مصلحته هي مع الحزب الذي يُقايِض معه سلطة مقابل غطاء للسلاح خارج الدولة، بينما لا مقايضة بينه وبين المعارضة.
وتؤكّد الوقائع السياسية أيضاً وأيضاً انّ المعارضة لم تراهن لحظة واحدة على عودة التيار إلى 5 شباط 2006، بل كانت على قناعة تامة بأنّ العلاقة المَصلحية التي تجمعهما تحول دون افتراقٍ استراتيجي بينهما، وانّ التقاطع الرئاسي مع التيار سيبقى ضمن هذه الحدود، وانّ الأخير سيُعاوِد التقاطع الرئاسي مع الحزب لحظة تَخلّيه عن مرشحه الرئاسي، فيما أولوية المعارضة إنهاء الشغور على قاعدة اختيار الأقدر، وقد فعلَ التقاطع فِعله مع الوصول إلى قناعة بأنّ الحلّ بالتوافق لا الحوار.
فالحوار الذي انطلق بين الطرفين يؤكد أن لا بديل لـ»حزب الله» عن «التيار الوطني الحر»، ليس فقط مسيحياً، إنما إسلامياًً أيضاً، فحليفه الدرزي خسرَ موقعه النيابي، أمّا حلفاؤه السنّة فيُمثّلون حالة رقمية داخل البرلمان لا حالة سياسية وازِنة داعِمة لمشروعه. وبالتالي، وجد نفسه من دون حليف يتولى بالنيابة عنه المواجهات التي تُجَنّبه تحويلها إلى شيعية – سنية وشيعية – درزية وشيعية – مسيحية، فضلاً عن انّ الحزب استثمَرَ في العلاقة مع التيار، إلى درجة انّ أحد أقطاب قوى 8 آذار تَوقّع ان يرشِّح السيد حسن نصرالله النائب جبران باسيل وليس الوزير السابق سليمان فرنجية، لأنّ كلمة السرّ في الانتخابات النيابية كانت بِدعمِ لوائح التيار على حساب حلفاء الحزب التاريخيين، كَونه الوحيد القادر على مواجهة أخصام الحزب وفي طليعتهم «القوات اللبنانية».
والحوار الذي انطلق بين الطرفين يؤكد ان لا بديل لـ»التيار الوطني الحر» عن «حزب الله» الذي شكّلَ له رافِعة وزارية ونيابية ورئاسية، ومن دون الحزب لما انتخب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، ويُدرِك باسيل تَمام الإدراك هذه الوقائع. وهذا ما يُفسِّر تحييده عنوان المقاومة عن خلافه الرئاسي، ولكنه لا يريد في الوقت نفسه تكريس عُرف في العلاقة بين الفريقين لجهة تَجاوز الحزب للتيار في المسائل المسيحية. وبالتالي، أراد تلقينَه درساً بأنّ كلفة تغطية السلاح تكون باستئثار التيار بالمواقع المسيحية، وإنّ أي خروج عن هذه القاعدة يؤدي إلى تعليق العمل بالتفاهم في شقه السلطوي.
وهناك من تحدّثَ عن وجهتي نظر داخل «حزب الله»:
الوجهة الأولى مُتشدِّدة ورافضة لإحياء العلاقة مع «التيار الوطني الحر» لأنه أفقَدَ الحزب فرصة انتخاب رئيس للجمهورية، وبَدَّا الحساب المَصلحي على مصلحة الخيار الاستراتيجي، ومَن حال دون انتخاب فرنجية هو التيار وليس خصوم الحزب الاستراتيجيين. ولم يكتفِ التيّار بهذا القدر، إنما تقاطعَ مع المعارضة على مرشّح كاد أن يتجاوز عتبة النصف زائداً واحداً لولا استنفار الحزب و»أمل»، ولم يَتفهّم الحاجة لانتخاب فرنجية المدعوم فرنسيّاً، والذي يحظى بتأييدٍ داخلي مقبول مقابل غياب حظوظ باسيل الرئاسية، ولم يُساير الحزب في استحقاق على رغم وَضع الأخير بَيضَه كله في سلّة التيار. وانطلاقا من ذلك كله وغيره، ترى هذه الوجهة ان لا مصلحة مع تيار مقياسه الوحيد هو المصلحة وأضَرّ بخط الممانعة.
الوجهة الثانية براغماتية، ترى انّ معاقبة التيار تشكّل معاقبة للحزب ونتيجتها خسارة للمحور، وانه لا بدّ من التعامل مع الحلفاء على ما هُم عليه، والحزب بحاجة للتيار، والأخير لم يخطئ استراتيجياً، إنما يريد ثمنَ موقفه الاستراتيجي سلطة ونفوذاً، وعلى الحزب وحلفاء الحزب تَفَهُّم حاجة الأخير، كما تَفهُّم انه على رغم أهمية الولاء والوفاء، إلا انّ الأحجام والأوزان لها دورها وتأثيرها، وجوهر التفاهم بين الفريقين أساساً كان على قاعدة سين-سين، سُلطة مقابل سلاح، وقد دفعَ التيار تراجُعاً في شعبيته بسبب هذا التحالف، فيما الحزب بحاجة لحليف يغطي سلاحه ويخوض المعارك بالنيابة عنه.
والعودة إلى الحوار بين الحزب والتيار تعني انّ وجهة النظر البراغماتية تغلبّت على الوجهة المتشدِّدة، ودَلّت الى انّ الحزب لا يتأخّر في التراجع أمام خصم أم حليف عندما يصطدم بالجدار المقفل. وبعد ان حاولَ بالطرق كلها انتزاع تأييد باسيل لفرنجية ولم يُفلح، رأى انّ الحدّ من الخسائر يبقى أفضل من خسارة مزدوجة: خسارة انتخاب فرنجية، وخسارة التحالف مع التيار. وكان قد اعتقد انّ بإمكانه إمساك العصا من وسطها: الرئاسة مع الشخص الضمانة، والتحالف مع التيار، لكنّ اعتقاده لم يكن في محله. إلا ان السؤال الذي يطرح نفسه: هل الحوار المُستجِد هو لإعادة العمل بهذه المعادلة أم انّ الوقائع تجاوَزتها والمطلوب تنظيم الخلاف توطيداً للتحالف؟
وإذا كان «حزب الله» ليس في وارد التراجع اليوم عن الشخص الضمانة المتجسِّد في شخص فرنجية، فإنّ «التيار الوطني الحر» ليس في وارد تَبنّي فرنجية، ليس خشيةً على صُدقيته وصورته، وهذا الأمر من آخر همومه، إنما خشية على دوره السلطوي مع شخصٍ يرتبط بتحالف وثيق مع تركيبة تسعينات القرن الماضي بأبعادها الشيعية والسنية والدرزية، ويأكل من صحنه نيابياً، ولن يتردِّد في إمساك مواقع الدولة العميقة مسيحياً. والحزب الذي لم يتمكّن من مَنع تَهجّمات فريقه ضد الرئيس عون، لن يستطيع ان يحول دون تطويق باسيل من هذا الفريق نفسه.
وعلى رغم انّ انطلاق الحوار عنوانه تحييد الرئاسة، إلا ان المتضرِّر الأول من هذا الحوار هو فرنجية الذي لم يُنتخب رغماً عن التيار، ومِن الصعوبة ان يُعيدَ الأخير حساباته، خصوصاً انّ الحزب لم يبادر في اتجاه فتح خطوط التواصل مع التيار سوى بعد ان لَمسَ صعوبةَ فِعْل اي شيء من دون حليف ورقة التفاهم، كما من الصعوبة إيصال مرشح الضمانة في ظل ميزان القوى النيابي. وبالتالي، كان يتمنى رئيس «المردة»، ربما، أن يتمّ تَدفيع رئيس التيار ثمن عدم انتخابه بإنهاء تفاهم 6 شباط وليس مكافأته بإعادة الحوار معه.
والمتضرِّر الثاني من الحوار هو قائد الجيش الجنرال جوزف عون وأي مرشّح يضَع باسيل فيتو عليه، لأنّ الحزب لن يدعم من الآن فصاعداً من يرفضه باسيل الذي من الواضح انه استفادَ من مبادرة الحزب الحوارية باتجاهه في هذا التوقيت بالذات، الذي بدأ البحث فيه خارجياً وداخلياً عن مرشّح ثالث بعدما تأكّدَ الجميع ان ميزان القوى القائم لن يُنتج سوى رئاسة على مسافة واحدة من الجميع، وبالتالي يريد ان يضمن باسيل، عن طريق الحزب، هوية الرئيس المقبل.
ولا بدّ أخيراً من أربعة تساؤلات لا إجابة عنها بعد: أين مصلحة «حزب الله» في الظهور بمظهر المُتراجِع أمام جمهوره واللبنانيين طالما انّ «التيار الوطني الحر» لم ولن يتراجع مبدئياً عن رفضه مرشّح الضمانة؟ وماذا يخبّئ الحزب خلف مبادرته الحوارية مع التيار كونه يصعب ان تكون ناتجة عن قراءة داخلية أفضت إلى اعتراف الحزب بخطأ التعامل مع التيار رئاسياً؟ ولماذا لم يُلقِّن الحزب درساً للتيار بالتقاطع مع المعارضة وغيرها على مرشّح يضع باسيل فيتو عليه على غِرار ما فَعلهُ الأخير معه في رَفضِه تَفهّم ضرورات انتخاب فرنجية، فيكون تلقيناً متبادلاً بدلاً من تسجيل التيار نقطة على الحزب في وقت انّ الفريقين في أزمة؟ وهل انطلاق هذا الحوار هو تمهيد لشيءٍ ما ستظهر معالمه قريباً في ظلّ حاجة فريق او الفريقين معاً إلى تهيئة بيئتهما لخطوة معينة؟
شارل جبور – الجمهورية