اقتصاد

إعفاء ضريبي سياسي على أصحاب الملايين بالخارج

أخذت موازنة 2024 حيزاً كبيراً من النقاش، إن في لجنة المال والموازنة أو في الأوساط المالية والاقتصادية، ليس لأهميتها، بل لبلوغها أرقاماً قياسية من المخالفات والتجاوزات بالشكل والمضمون.
وتتركز غالبية مخالفات الموازنة بسلة الضرائب المعدلة وتلك المُستحدثة. لكن يبقى أكثرها نفوراً ودلالة على وقاحة الحكومة، وإمعانها بنهج الفساد والتهرّب من المسؤوليات، وهو المادة 58 من الموازنة. وهي المادة التي تتناول فرض ضريبة 10 في المئة على صافي الأرباح التي يحقّقها من الخارج كل لبناني مقيم ضريبياً في لبنان.

ثغرات الموازنة
تضمن مشروع موازنة 2024 ثغرات عديدة، يتركّز معظمها في سلة الضرائب غير المباشرة التي تطعن بمبدأ العدالة الضريبية، والرسوم المتفرّقة على السلع والخدمات التي تطال كافة شرائح المجتمع. وقد بلغت نسبة الضرائب غير المباشرة نسبة 70 في المئة من عموم الضرائب. وهي نسبة مرتفعة جداً بالنسبة إلى بلد تبلغ فيه نسبة الفقر مستويات قياسية.
في مشروع موازنة 2024، تفرض الحكومة ضريبة دخل على الموظفين ومحدودي المداخيل وفق شطور غير مدروسة، اعترفت الحكومة بإجحافها وغير ملاءمتها. ورغم ذلك لم تعمل على تعديلها. وفي المشروع نفسه وعلى يد الحكومة نفسها، يتم التهرّب من فرض ضريبة على الفوائد من الحسابات الخارجية والأرباح المحقّقة خارج الأراضي اللبنانية، والعائدة إلى لبنانيين استثمروا وأخرجوا رساميل أو حتى هرّبوا أموالاً إلى الخارج. وهنا المقصود اللبنانيين المقيمين ضريبياً في لبنان. ومنهم على سبيل المثال رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، الذي يمتلك مع شقيقه طه ميقاتي شركة M1 group التي تدير أكثر من 10 شركات حول العالم، تحقق أرباحاً بالملايين ولا تسدد ضريبة عليها.

فحسب المادة 69 من قانون ضريبة الدخل، تترتب الضريبة على كل الأرباح المحققة في لبنان، كما تترتب على الأرباح المحققة في الخارج، في حال كان المستفيد من تلك الأرباح مقيماً في لبنان. بمعنى آخر، كل مواطن مقيم ضريبياً في لبنان لديه حسابات مصرفية في الخارج أو توظيف أسهم في شركات أو استثمارات تدر عليه أرباحاً سنوية وغير ذلك، تقع عليه ضريبة على أرباح تلك الاستثمارات والتوظيفات العائدة له. ولكن ثمة عراقيل توضع أمام تطبيق هذه المادة. فما هي تلك العراقيل؟ وكم تبلغ التقديرات التي يمكن أن يعود بها تطبيق الضريبة على أرباح رؤوس الأموال المنقولة الموجودة في الخارج؟

تهرّب السلطة
سبق للمستثمرين في الخارج من مقيمين في لبنان أن صرحوا أمام المصارف الأجنبية بأنهم مقيمين ضريبياً في لبنان للتهرب من متوجبات ضريبية عليهم، معتمدين بذلك على السرية المصرفية في لبنان. من هنا، تواجه الحكومة في لبنان اليوم إشكالاً حول آلية تنفيذ الضريبة على الأرباح المتأتية من الحسابات في الخارج. ويوضح الخبير في الشؤون الضريبية المحامي كريم ضاهر، أن صاحب الأموال المستثمرة في الخارج ملزم بالتصريح عنها سنوياً قبل شهر آذار، ليسدد الضريبة على أساسها. وما لم يتم التصريح عنها يحق لوزارة المال العودة من 5 إلى 7 سنوات سابقة لاستيفاء الضريبة. وفي حال لم يتم السداد، فذلك يرتب غرامات على صاحب العلاقة.
مع العلم أنه تم تقديم تسهيلات تقضي بسداد الضريبة عن سنوات ما قبل 2022 على أساس 1500 ليرة، ما يعني أن من حقق أرباحاً بقيمة مليون دولار عليه سداد نحو 100 ألف دولار على سعر 1500 ليرة للدولار، أي ما يوازي 150 مليون ليرة أو قرابة 1600 دولار فريش فقط كضريبة. وذلك لتشجيع المكلفين بسداد الضريبة وتوسيع قاعدة المكلفين.
لكن السؤال هو كيف لوزارة المال كشف أسماء أصحاب الحسابات في الخارج، ما لم يصرّحوا بأنفسهم عن أموالهم؟

عرقلة التبادل التلقائي
يشرح ضاهر في حديثه إلى “المدن” أن الإشكال على هذه الضريبة “سياسي”. في لبنان لا تزال السلطة فالتة من مسألة التبادل التلقائي للمعلومات مع الخارج. فلبنان كان قد دخل إلى المنتدى العالمي Global Forum بموجب القانون 55/2016، الذي سمح للدولة توقيع معاهدة دولية لتدخل المنتدى العالمي للشفافية وتبادل المعلومات، إما عبر التبادل التلقائي أو التبادل غب الطلب. وقد وقّع لبنان المعاهدة في أيار عام 2017 وبات يحق لأي كان طلب معلومات من لبنان غب الطلب، كما يمكن للبنان الطلب من كل البلدان الموقعة وهي 167 دولة. لكن هذا أمر لا ينفع. إذ على وزارة المال طلب الاستفهام عن شخص معين.
يتابع ضاهر “هناك نقطة قوة، فحسب التبادل التلقائي للمعلومات، يتحتم على لبنان سنوياً إرسال معلومات إلى 167 دولة عن المقيمين في تلك الدول، ويملكون حسابات في لبنان. والأمر نفسه ينطبق على لبنان، إذ يحق له المطالبة بالأمر نفسه. وتلك الدول بينها سويسرا ولوكسيمبورغ وفرنسا وغيرها. لكن لبنان لم يحصل على المعلومات، لماذا؟ لأن تلك الدول كي تسمح للبنان بالحصول على المعلومات، على الأخير الالتزام بآلية معينة تعزز شفافية استعمال المعلومات المقدمة له.

وقد تم وضع خطة عمل بين وزارة المال مع OECD وGlobal Forum عام 2019 وبدأ التنفيذ لتوصل لبنان إلى مرحلة تخوله الحصول على المعلومات أوتوماتيكيًا، حول كل المقيمين في لبنان ولديهم حسابات في الخارج، بشكل تصل فيه المعلومات سنوياً وتلقائياً إلى وزارة المال. هذه الآلية تحديداً لم تجهز حتى اللحظة، كما أنها تجابه بالرفض من قبل السلطة السياسية في لبنان. ولذلك يعرقلون خطة العمل، ليبقى الوضع على ما هو عليه.

على المالية التحرّك
في حال حصل التبادل التلقائي للمعلومات، فذلك قد يجني مئات ملايين الدولارات من الضريبة على أرباح الحسابات بالخارج والتي تحقق المليارات لأصحابها من نافذين وسياسيين. وحسب ضاهر، يتذرع السياسيون بأسباب تقنية، لكنهم في واقع الأمر يتهربون من تسهيل استيفاء هذه الضريبة التي قد تحصّل إيرادات مالية ضخمة وتحقق استدامة للإيرادات وتكافح الفساد.
حالياً، في ظل عدم وجود التبادل التلقائي للمعلومات، يمكن لوزير المال الطلب بالحصول على معلومات غب الطلب، ويمكن للنواب سؤال وزير المال الذي لديه الإمكانية بالطلب من 167 دولة معلومات غب الطلب، عن حسابات تعود لقائمة من الأشخاص الذين يشكلون شبهات أو شكوكاً بتهربهم ضريبياً، إلى جانب الضغط على الحكومة للوصول إلى التبادل التلقائي للمعلومات.
وما لم يحصل ذلك، فإن موازنة 2024 لن تحقق المبتغى. ما يعني أنها تطلب من أصحاب الحسابات بالخارج التصريح الطوعي عن حساباتهم وسداد الضريبة على أرباحها تحت طائلة اعتبارهم متهربين ضريبياً. وحسب الموازنة، فإن على وزارة المال ملاحقة المتهربين، لكنها لا توضح آليات الملاحقة، ما يؤكد عدم جدّيتها.
باختصار، تترك وزارة المال لأصحاب الاموال في الخارج حرية التصريح عن أموالهم وأرباحهم طوعاً، من دون أن تستعمل حقها بطلب معلومات من 167 دولة حول حسابات اللبنانيين فيها.

عزة الحاج حسن – المدن
 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى