المنقوشة” كمرآة لأحوالنا وأهوالنا وثقافتنا
أدرجت منظمة “اليونسكو” منقوشة الزعتر(أو الصعتر) على لائحتها للتراث غير المادي للبشرية، واصفة إياها بأنها “راسخة في الهوية” اللبنانية. وقرّرت “اليونسكو”، وهي منظمة دولية تابعة للأمم المتحدة، إدراج العجينة الشهيرة التي يوضع عليها الزعتر(الزوباع المطحون أو البري والابري) الممزوج بالزيت والسمسم والسماق وسائر المكونات، وتُخبز في الفرن أو على “الصاج” أو في التنور، ضمن التراث غير المادي للبشرية، بناء على طلب قدّمه لبنان في آذار 2022.
وذكّرت “اليونسكو” في وصفها للمنقوشة بأنها “خبز مسطّح يُعدُّ في المنازل والمخابز المتخصصة، ويستمتع السكان المنحدرون من جميع الخلفيات في لبنان بتناوله في وجبة الفطور” أو الترويقة الكلمة التي أدرجت حديثا في مجمع اللغة العربية في القاهرة. ولم يخلُ بيان المنظمة الدولية من سياق فلكلوري “لبنانوي”، إذ لاحظت أن صلوات ترافق إعداد العجين “التماساً لاختمار العجين، فيقوم المسلمون بتلاوة بداية سورة “الفاتحة” ويقوم المسيحيون بتلاوة الصلوات والتصليب”.
ووضع منقوشة الزعتر (وهي من ضمن معجنات الأفران إلى جانب الكرواسون والجبنة والسبانخ والرقاقات المتعدّدة النكهات والمكونات)، في لائحة التراث البشري غير المادي، يأتي بعد مرحلة عصيبة مرّ بها لبنان، في خلالها كانت المنقوشة موضع أخذ ورد ومعمعة، وتحولت معياراً ومرآة للكثير من الأمور في توصيف الأحوال والأهوال والمصاعب والمشقات وحتى الترفيه، ففي مرات كان الخبر حول أكبر منقوشة في مهرجان تراثي أو مدرسي يسعى إلى رقم قياسي في موسوعة غينيس… في المقابل، وفي ذروة انتفاضية 17 تشرين، نقلت وسائل الاعلام أنّ مواطناً لبنانياً انتحر لعجزه عن تأمين منقوشة زعتر لابنته… وبعد الغلاء وارتفاع سعر الدولار رواج “معجم الانهيارات”، عنونت صحيفة عربية “منقوشة اللبنانيين لم تعد لهم، أصبحت وجبة الميسورين بعدما ارتفع ثمنها والكساد يغلق أبواب الأفران”، وعنونت صحيفة أخرى “حتّى منقوشة الزعتر لم تعُد ترويقة الفقراء”، و”الانهيار الاقتصادي في لبنان لم يستثن ثمن المنقوشة”، سبق هذه العناوين الكارثية عناوين فيها الكثير من “الأمل” و”الفخامة” مثل: “المنقوشة… من المائدة اللبنانية إلى شوارع العالم”، وانتشار المنقوشة في العالم لا ينفصل عن انتشار اللبنانيين وهجراتهم، وكُتبت مقالات فيها شيئ من رائحة “الشوفينية” اذ جاز التعبير، وتقول “هل أخذ الايطاليون فكرة البيتزا عن المنقوشة؟”
ومع جائحة كورونا قرأنا عناوين من نوع “منقوشة الزعتر اللبناني تأسر الفرنسيين”، وجاء في الخبر “تخلّت العديد من المطاعم الفرنسية الراقية خلال جائحة كورونا عن لائحة طويلة من الأطباق التي درجت على تقديمها، مفضلة الاتجاه لتوفير مأكولات بسيطة من مختلف أنحاء العالم تتناسب مع الطلبات الخارجية وشهدت إقبالا كثيفاً من الفرنسيين ومنها منقوشة الزعتر اللبنانية، والسو بيريك والمانتي من أرمينيا.
ووفّر آلان الجعم، الشيف الحاصل على نجمة من “ميشلان”، للباريسيين منقوشة الزعتر اللبنانية الشهيرة مستوحيا من جذوره وذكريات طفولته، ونجح بواسطتها في استقطاب عدد كبير من الزبائن”…
مع بدء الحرب الروسية على اوكرانيا، وبدء الحديث عن أزمة قمح عالمية، نشرتْ مقالة تشاؤمية بعنوان “المنقوشة إلى أدراج الذّكريات قريبًا؟! بسبب الخوف من انقطاع القمح… وأخيراً ليس آخراً، طالعنا أحد الكتاب بمقال عنوانه “بعدما تناولها هوكشتاين… هذه حكاية “المنقوشة”… القصد المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين، الذي يقال إنه ضليع في الملف اللبناني، وله أصدقاء في جبهة “الممانعة” وجماعة السيادة، ولديه صولات وجولات بين أدراج بعلبك ومشارف صخرة الروشة من غير احتجاج الأهالي ولا غضبهم، وبالتالي يعرف أهمية “المنقوشة” ومدى انتشار أفرانها وأماكن تناولها، ولكن الكاتب الذي ذكره في مقاله لم يكتب حكاية المنقوشة… والحال أنه ليس هناك تأريخ فعلي للمنقوشة، بل هناك تداخل في المعلومات، التي تتحدّث عن بدء صناعة الخبر أيام الفراعنة وانتشارها، وبالتالي المنقوشة جزء من مسار الخبز المطعم بنكهات، وإذا كنا غير قادرين على إيجاد مصادر دقيقة ومكتوبة لتاريخ المنقوشة، نعرف أنها أكلة في بلاد الشام (فلسطين الاردن سورية لبنان)، وكلمة مناقيش مشتقة من كلمة “نقش” التي في اللغة العربية تعني تلوين الشيء بالشيء(وثمة من ينسب الكلمة إلى التركية والفارسية من غير سند مبرم).
وللمنقوشة بحسب إحدى العجالات، أخوات أيضاً تشبهها في كل أرجاء العالم العربي، في سوريا وفلسطين تحتفظ المنقوشة بإسمها وتختلف طبيعتها وخبزها وحتى نوعية الطحين. في شبه الجزيرة العربية ولاسيما في الإمارات العربية المتحدة هناك ما يشبهها وهو “خبز الرقاق” حيث تخلط النسوة في منازلهن دقيق القمح مع الملح والماء وتستخدم آله شبيهة بالصاج للخبز، وتضع في بعض الأحيان على الخبز البيض أو الجبن. أما في تونس، فهناك “المْلاوي” وهي أشبه بمناقيش الصاج ويضيف إلى مكوناتها الجبنة الفرنسية والبيض (يسمونه عضام) والسلامي وهريسة الفلفل الحارة.
ولحقت المنقوشة في لبنان تطورات وأفكار كثيرة؛ وهي جزء من تداخل الثقافات والتقاليد والأنماط، فبعدما كانت أنواعها محصورة بالزعتر، فإنها اليوم تشهد لائحة طويلة من المكونات التي تدخلها تحت اسمها المشهور هذا. إذ أُضيفت إليها أنواع مناقيش أخرى: “منقوشة الكشك” والجبن (من أنواع العكاوي – التشيكي والبلغاري والحلوم والقشقوان وحتى الموزريللا) والكفتة والخضرة (بصل، بندورة وفليفلة) وهريسة الحر، عدا اللبنة واللحمة، وهناك اللحم بعجين الأرمني في هذا الإطار…
واذا كانت المنقوشة “راسخة في الهوية اللبنانية” بحسب بيان اليونسكو، تكتب نيفين مسعد في جريدة “الشروق” المصرية: تتراءى لي المنقوشة اللبنانية كمرآة للمجتمع اللبناني وليس كمجرد قطعة من العجين لها مذاق طيب بل طيب جدا، فهذه القطعة من العجين قد يعلو سطحها الأملس بعضٌ من الزعتر المُرَطَب بزيت الزيتون أو قطع صغيرة جداً من الجبن الحلوم أو اللحم المفروم أو السبانخ أو طبقة رقيقة من الكِشك اللبناني وهو يختلف عن الكِشك المصري، قد تأخذ شكلاً مستطيلاً أو مربعاً أو مستديراً، قد تكون مطوية أو منبسطة وقد يكبُر حجمها أو يصغر. هذا التنوع الشديد في طَعم المنقوشة وقوامها يشبه التنوع اللبناني في التضاريس والناس والعادات والارتباطات”. وتضيف مسعد “لكن كما تعكس المنقوشة تعدّدية المجتمع اللبناني فإنها تُوَحِده، لا تحتاج أن تكون ثرياً حتى تتذوّق المناقيش وتستطيب طعمها فالشخص “المعتر” أو رقيق الحال في اللهجة اللبنانية يشتريها أيضاً، فهذا الصنف اللذيذ تجده على موائد علية القوم كما تجده في أيدي عامة الشعب، ولكن ربما قد تختلف الوظيفة، ففي الفنادق الكبرى حيث تُخبَز المناقيش أحياناً أمام أنظار رواد الفندق فإنها تكون جزءاً من المقبلات وفواتح الشهية التي يشتهر بها لبنان، لكن في المطاعم الشعبية فإن منقوشة كبيرة قد تمثل وجبة مشبعة بحد ذاتها”…
أحوال هوية المنقوشة، بغض النظر عن رسوخها أو عدم رسوخها، تتراءى لنا في ما كتبه، عالم الاجتماع العراقي، سامي زبيدة في مقال بعنوان “مكوّنات الثقافة الشعبية في الشرق الأوسط”، إذ يقول “قد نميل إلى الإشارة إلى التنوع الكبير في المجتمعات واللغات والثقافات، أو إلى اقتراح تحديد أقلّ مركزية إثنية -رغم أنه قد لا يقلّ إشكالية- من قبيل “المتوسطي”، الذي يضمّ أوروبا وغير أوروبا. يمكن مع ذلك، على مستوى الثقافة والتنظيم الاجتماعي، تمييز عدد من العناصر والثيمات المشتركة، بعضها خاصّ بالعالم العربي -أو على الأقل، بجناحه المشرقي- لكن الكثير منها مشترك أيضاً مع إيران وتركيا. وبهذا المعنى، يمكن النظر إلى الشرق الأوسط على أنه مساحة حضارية تشكّلت تاريخياً من الخضوع المشترك للإمبراطوريات الكبرى: فارس، بيزنطة والخلافة الإسلامية؛ وكذلك من موجات الأسْلَمة المتتالية”… يضيف “تأخذ التماثلات الثقافية شكل التنويعات على ثيمات مشتركة، أوضحها وأسهلها، ربما، هي تلك التي تخصّ الثقافة المطبخية: المشاوي، المحاشي، يخنات لحم الغنم بالخضار، المعجّنات الحلوة باللوز والفستق وما إلى ذلك…”… و”تاريخياً، ثمة الكثير من التحوّلات والانقلابات التي لا بدّ وأنها شملت عناصر ثقافية؛ كما أن العناصر الثقافية القديمة تتحول في سياقات حديثة، كما سنرى لاحقاً. وقد يكون لهذه التغيّرات آثار متغايرة على البلدان أو المناطق المختلفة، لكنها غالباً ما تتسلّل مع الزمن إلى معظم المناطق، وليس بالضرورة بالأشكال نفسها. فمتابعةً لمثال المطبخ، يمكن أن نشير إلى التأثيرات العامة والمتماثلة تقريباً لإدخال البندورة إلى المنطقة وتبنّيها اللاحق في كافة أوجه فن الطبخ، بحيث بات من الصعب جداً الآن أن نتخيّل كيف كان الطعام الشرقوسطي قبل اكتشاف البندورة كلية الوجود”…
وللبندورة حكاية وكذلك البطاطا والسمسم وسائر الخضر والفواكه والأطباق والتوابل..
وإلى ذلك، لم ينج الزعتر من الصراع العربي الاسرائيلي، فبحجة حمايته من الانقراض، منعت السلطات الإسرائيلية جمع الزعتر البري منذ العام 1977. تُفرض على المخالفين من الفلسطينيين غرامات ثقيلة بالإضافة إلى مصادرة العشب الملتقَط، وفي حالة الامتناع عن السداد يتعرض بعضهم لإحكام بالسجن.
المدن