ميا خليفة..صوت غ/ز/ة الصارخ في أميركا
حمل طوفان الأقصى في جملة مآثره، مفاجأة من نوع مختلف تمامًا، مفاجأة تؤكد أن قضايا الحق لا تعرف حدودًا مهنية أو دينية أو إقليمية، فحق البشر في تقرير مصيرهم والعيش بكرامة واستشراف المستقبل، لا جدال فيه، مثلما ان رفض الإحتلال والإضطهاد والعنصرية واجب لا مانع دونه. من هذه المعادلة البديهية صرخ صوت يناصر فلسطين وأهلها، من أقل المكامن احتمالًا وأكثرها نفوذًا. نجمة الأفلام الإباحية السابقة، سيدة الأعمال الناجحة، وصاحبة التأثير السيبراني الهائل، الأميركية اللبنانية الأصل ميا خليفة التي نزعت القفازات الدبلوماسية والفنية وسددت للدعاية الصهيونية اللكمة الأكبر موضعيًا في وسط كانت إسرائيل وحلفاؤها يعتقدون أنه بمنأى عن التفاعل مع التطورات الجيوسياسية والإقليمية البعيدة عنه.
انتشر أواخر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع ملفت تظهر فيه ميا خليفة وهي تؤدي الدبكة، التي يبدو أنها تتقنها، على انغام أغنية الفنان الفلسطيني محمد عساف التي تحولت الى أحد أناشيد المواجهة الراهنة “أنا دمي فلسطيني”. وبصرف النظر عن ردود فعل المتابعين العرب التي تراوحت معظمها بين استهجان ” الصحوة الأخلاقية” لإمرأة “ذات سمعة سيئة”، وبين مقارنة موقف تلك “المرأة” مع مواقف “الرجال” من الزعماء العرب الذين لم يجرؤوا على قول ما تفوهت به، كان لوقع هذا “الفيديو” أثرًا هائلًا في الفضاء الإعلامي الأميركي. ميا خليفة ليست مجرد ممثلة أفلام اباحية، وليست “بائعة هوى” و “لا تأكل من ثديها”، والأهم أنها في موقفها الأخلاقي الواضح تنافس وتبتز وتقهر أصحاب القلنسوات والعمائم والقبعات، فهي بالمعنى الحرفي والدقيق ليس لديها ما تخجل منه ولا مصلحة لها في أن تخفيه.
في مقابل الاستخفاف والتطهر العربيان المنطلقان من خلفيات اعتذارية بدائية، شنت الصهيونية بكل مكوناتها المتاحة حملة شعواء على ميا خليفة لشيطنتها و” الحاقها” بالمحور “الديني الإسلامي” المعادي لأميركا والديمقراطية بالفطرة. كانت الدوائر الموالية للصهيونية في أميركا تعتمد النهج الذي تستنكره علنًا، نهج التعميم والتشنيع والتنميط، للضرورة أحكام وهنا اقتضت الضرورة الإستغناء عن مظاهر الديمقراطية وحرية الرأي والخصوصية وقداسة الملكية الفردية، لأن هذه القيم في هذه اللحظة لا تفيد الرواية الأميركية المتهافتة. لكن جمهور الغرب يختلف. لا يمكن لأية حكومة أو هيئة أن تملي على الناس قناعاتهم. هذا هو العنوان الرئيس للديمقراطية التي يدافع عنها النظام العالمي. أليس هذا مبدأ تزويد أوكرانيا بموازنات فلكية لتتصدى للطغيان؟ من هذه النقطة بالتحديد جاء التفاعل مع موقف خليفة وكان شاملًا.
لم تكن تغريدات ميا خليفة الحديثة، الأولى من نوعها وإن كانت الأوسع انتشارًا والأبعد صدى. ففي صيف العام 2021، واثناء العدوان الإستيطاني الإسرائيلي على حي الشيخ جرّاح في القدس المحتلة أعربت ميا عن رأيها، على طريقتها الخاصة، نشرت في تغريدة على منصة تويتر صورة لها وهي تحتسي كأس نبيذ فرنسي عتيق من قنينة قديمة وقالت: “نبيذي هذا أكبر عمرًا من “دولتكم” العنصرية”. أثارت تلك التغريدة زوبعة كبيرة تدخل فيها رئيس تحرير صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية، وابن المؤسسة العسكرية والأمنية المعروف آبي ماير الذي علق بطريقة تختزل آلية الدعاية الصهيونية برمتها حين رمى في رده خليفة بتهمة التعاطف مع النازية قائلًا أن قنينة النبيذ التي نشرتها مصنوعة أيام الاحتلال النازي لفرنسا، وقد سخرت خليفة منه ومن رده في حينه لافتة الى أن الغباء أعماه عن الإنتباه الى أنه يتحدث عن الاحتلال كجريمة بينما هو الآن المحتل ونصحته بإعادة قراءة ما كتبه ليتأكد من صلاحيته للنشر.
كشفت تبعات مواقف خليفة والسجال حولها أن الصبية التي اجتاحت أكثر قطاعات صناعة الترفيه تداولًا وعائدات، وتربعت لسنوات على عرش “البورنو” قبل أن تعتزل طوعيًا وتتحول الى سيدة أعمال تسوق لملابس وسلع كثيرة، وشخصية نافذة في التواصل الاجتماعي، ليست مجرد كائن جنسي يخاطب الغرائز والنزوات، وأن مواهبها تتعدى التعري والنكاح أمام الكاميرا. ولا يتوقف الأمر هنا على “صحوة” ضميرها ولا على “الإنحياز” التلقائي لجماعتها الإثنية أو الوطنية، وانما يعبّر عن رؤية إنسانية متكاملة لقضية حق واضح ينبغي الدفاع عنه. أثبتت ميا خليفة استعدادها للدفاع عن موقفها فعليًا، فقد خسرت عقدي عمل مربحين من مجلة “بلاي بوي” ومن محطة إذاعية كندية، الّا أنها لم تهادن بل صعدت لهجتها الإنتقادية لتطاول ابرز العاملين في المجال الفني الموالين للصهيونية وخصوصًا الممثلة الإسرائيلية الجنسية التي تتباهى بخدمتها في جيش الاحتلال، غال غادوت التي وصفتها في تغريدة لها بـ “باربي الإبادة”.
وفي مقابلة حديثة لها مع الإعلامية آبي مارتن في برنامجها الحواري “امباير فايلز” تحدثت خليفة عن تجربتها كطفلة تحت الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان فقالت أنه كانت في الثامنة من العمر ايام الاحتلال “لم أعرف يومها أياً من المفاهيم الجيوبولوتيكية، لكني أعرف عندما تبكي أمي ونحن نعبر الحواجز التي اعتقدت انها جزء طبيعي من الحياة، لا يمكن للإنسان الا أن يشعر بجنوح طاقته كليًا ويحس بخوف الناس حوله وهو يقترب الى الحاجز ويكتشف عجز الكبار عن فعل أي شيء له، هذا الشعور يبقى معك، وهو الشعور الذي رافقها الى أميركا التي هاجرت اليها عام 2001، لتواجه العنصرية والتمييز اللذين استمرا حتى سنوات قليلة عندما تمكنت من التمييز بين المواطنة الكاملة وبين اجبار العرب فعليًا على القبول باتهام انفسهم. وأكدت انها بناء على تجربتها في لبنان تعرف أن القوات الإسرائيلية لا تصوب بدقة بل تتعمد التدمير الشامل لأي هدف تريده.
اتهمت الحكومة الإسرائيلية بافتعال روايات لإستغلال شعار معاداة السامية بالتعاون مع وسائل الإعلام الأميركية وقارنت بين حملات نتنياهو وحملات ترامب في اعتماد الكذب. ووصفت ما يقدمه الإعلام الإسرائيلي وامتداداته الأكاديمية بالمدينة الفاسدة (Dystopia)، والتعامي الكامل عن الحقائق الدامغة ليس في غزة فقط وانما في الضفة الغربية وفي التعامل مع الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية. ولاحظت ان الجيل الجديد في أميركا لم يعد يقبل الرواية الإسرائيلية التقليدية بل ويرفض استغباءه والتعامل معه على أساس انه غير قادر على التفكير وتكوين رأي مستقل في المسائل المهمة. وأن العلاقات الإنسانية والإجتماعية بين الأميركيين وبين العرب الأميركيين في مختلف الميادين ساهمت في التغيير التدريجي للصورة النمطية التي حاول مفهوم صراع الحضارات تكريسها بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001. واستغربت كيف لا يهتم الإعلام الأميركي والغربي بدعوات الإسرائيليين العلنية لإبادة العرب والفلسطينيين بينما يبالغ في نشر أي كلام عربي من هذا النوع. “مشكلة اميركا أنها لا ترى سوى الأوروبيين البيض كبشر يستحقون الحياة، أما الباقي فتحت مشيئة صفقات السلاح والمصالح والعلاقات التي ترقى الى درجة نظرية المؤامرة”.
استنفرت إسرائيل ومؤيدوها كل الإمكانات المتاحة للتصدي لخليفة، خصوصًا وأنها تنقل المواجهة الى جمهور غير مسيس ولا يتابع الأخبار وجلّه من الشباب، ولم يقتصر الرد عليها على المصادر المعتادة بل وظف “اللوبي” علاقاته” اللبنانية النتنة فانبرى كثيرون للرد عليها ممن عابوها بأن عائلتها توالي القوات اللبنانية وأن عليها أن تعادي الفلسطينيين الذين “تسببوا بحرب لبنان وهجرة المسيحيين منه”، أو الذين ركزوا على عدم اهليتها الأخلاقية للتعاطي في الشأن العام. باءت تلك المحاولات بالفشل الذريع، ليس لأن خليفة تتمتع بحق النجومية بل لأنها تدعو لنجومية الحق.