اخبار محلية

ماذا كان فعل نواب الأمة لو كانوا مكان الحكومة

من استمع إلى مداخلات بعض نواب الأمة بدافع الحشرية فقط، وهم يناقشون موازنة العام 2024، لم يستغرب السبب الذي آلت اليه أوضاع اللبنانيين. فليس أسهل على المرء من أن يعتلي المنابر ويبدأ بالحديث والتنظير عن أحوال البلاد، وكأن لا دخل له بما يجري من حوله، أو كأنه كامرأة قيصر منزّه عن الخطأ.

 

 
والأنكى أن بعض الذين استمعنا إليهم محاضرين في العفة هم المسؤولون أولًا وأخيرًا عن بقاء البلاد من دون رئيس للجمهورية، ونراهم يتحججون بأن الظروف الدولية والإقليمية غير مؤاتية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. وينسى هؤلاء الذين أنزلوا الحكومة من “الشوحة” أنهم كانوا مشاركين عبر أحزابهم وكتلهم السياسية في الحكومات المتعاقبة، ولم يقدموا على أي خطوة مما يطالبون به اليوم غيرهم بالقيام به. وينسى هؤلاء أن الحكومة الحاضرة أمامهم قدّمت وللمرة الأولى في تاريخ الحكومات موازنة قبل موعدها الدستوري، وينسى أو يتناسى من يعتقد أن ذاكرة اللبنانيين قصيرة أن هذه الحكومة ورئيسها يجاهدون كل يوم في محاولات حثيثة للتقليل من أضرار الأزمات الاقتصادية المتراكمة، والتي ألقيت على عاتقهم دفعة واحدة، وهم المستنزَفون بردّ السهام التي توجّه إليهم، وكأنهم هم المسؤولون وحدهم عن كل تلك الموبقات، التي هي نتيجة الفساد المستشري الناجم عن تراكمات سياسية تقع مسؤوليتها على من تعاقب على المسؤولية في آخر ثلاثين سنة، وبالأخص في آخر ست سنوات. 

ونسأل هؤلاء النواب، الذين تحدّثوا في الجلسة الافتتاحية، أو أولئك الذين سيتحدّثون في الجلسات المقبلة: ماذا كانوا فعلوا لو كانوا في سدّة المسؤولية التنفيذية مع هكذا إمكانات متواضعة جدًّا؟وما هي الحلول التي كانوا سيتقدّمون بها لحلّ كل هذه المشاكل الملقاة على عاتق حكومة لا ترضي من لا يعجبه العجب حتى الصيام في رجب؟ 

فاللبناني الساعي وراء لقمة عيش عياله بشقّ النفس لا يهمّه كثيرًا ما يقوله هؤلاء النواب، وقد اعتاد على سماع هكذا نوع من الكلام الاستهلاكي. وبالطبع لا يهمّه إذا كان ما يُخطّط للبنان سيبصر النور اليوم أو بعده أو بعد سنة وأكثر. ومن يُقنع ذاك “الملفلف” بمئة بطانية ليطرد البرد الذي ينخر العظام عنه وعن بيته غير الدافئ لقلة المازوت أو الحطب، بأن نوايا هؤلاء النواب صافية، وبأن ما يرسم لنا من خرائط جديدة هي لمصلحة الشعوب الكادحة؟ ومن يستطيع أن يضمن بأن الأيام المقبلة ستكون أفضل مما هو عليه الوضع اليوم؟

لا مغالاة إذا قيل إن ما يريده كل لبناني من دون استثناء هو غير ما يُرَوج له من تسويات أو حلول. ففي التاريخ القديم، كما الحديث، وقائع ثابتة ودامغة بأن ما يرسمه الكبار للصغار لا يأخذ في الاعتبار ما يريح هؤلاء المعتبرين من الفئات المهمّشة وغير المسموعة أصواتها في أي حال من الأحوال. فـ “الكبار” في وادٍ و”الصغار” في وادٍ آخر، وكان بينهم هوة سحيقة. وكما حنا كما حنين. فإن ما بين الشعب ونوابه أكثر من هوة. بينهم قّلة ثقة. فالناس لم يعد يربطهم بهؤلاء النواب أي مصير، مع أنهم هم الذين انتخبوهم عن سابق تصوّر وتصميم، لكن غلطة الشاطر بألف، وأن المؤمن الذي لا يمكن أن يلدغ من الجحر مرتين قد “تعلّم من كيسو”، ولن يعيد الكرّة.  

ولكي لا يبقى هذا الكلام مجرد سرد أنشائي لا بدّ من أن تُعطى أمثلة حسّية على أن ما بين هؤلاء وأولئك فوارق واضحة في الرؤية والممارسة والمعاناة والقدرة على التحمّل. فلهؤلاء أهداف غير متقاربة وغير متطابقة مع الواقع المعيوش للذين يُعتبَرون من الفئات المهمّشة، بما فيه من معاناة غير مرصودة في قواميس المجتمعات، التي اكتسبت حقّ تقرير مصيرها ومستقبلها بأيديها. فما يعانيه المواطن اللبناني لم يعانه أي مواطن آخر، باستثناء من تشبه وضعيتهم حالته اليومية. ويُذكر في هذا المضمار بالطبع الشعب الفلسطيني، الذي يقاسي ما لا قدرة لشعب آخر على احتماله.

وما يُروى عن حجم وهول مأساة أهل غزة لا يمكن وصفه بكلمات قليلة، وإن كانت صادقة وشفافة. وكذلك هي حال أهالي الجنوب، الذين تنهمر على رؤوسهم صواريخ حاقدة، ولا يزالون مصرّين على البقاء في بيوتهم وأرزاقهم. 
فالمعاناة لا تُجزّأ، ولا يمكن التشارك بها تمامًا كالجمرة التي لا تكوي سوى مطرحها. وما يُقال هنا وهنا، وما يصدر من مواقف غير قابلة للصرف على موائد المصالح الدولية والإقليمية لا يقلّل من حجم القلق، الذي يعيشه اللبنانيون عمومًا، وأهل الجنوب خصوصًا، وإن كان التضامن مع أهل غزة يتمّ التعبير عنه بأشكال مختلفة، وقد يكون “التعبير بالنار والحديد”، وفق منطق عدد لا بأس به من اللبنانيين المكتوين من “الحليب” يجعلهم ينفخون على “اللبن”، وذلك لكثرة ما مرّ عليهم من تجارب مريرة كان فيها المدفع هو المتحكّم بالمصائر فكانت النتيجة أن “لا غالب ولا مغلوب”. 

وكما كانت حال اللبنانيين بالأمس هي اليوم. وهكذا تكون غدًا ما دامت الهوة بهذا العمق بين من يعتبرون أنفسهم مسؤولين لا يزالون يعيشون في “كواكب” غير “الكوكب” الذي يعيش فيه سائر اللبنانيين، على مختلف انتمائهم السياسي والمذهبي والطائفي والمناطقي. فجميعهم في الهمّ سواسية. فلا ابن الجنوب راضٍ ولا ابن الشمال. وهكذا يتوحدّ اللبنانيون للمرة الأولى ولو على “الهمّ والغم”، ولا يختلفون على الأقل عندما يتعلق الأمر بامتحان التفضيل بين هذا النائب أو ذاك المسؤول. فجميعهم يوضعون في سّلة واحدة. 

فمن تابع وقائع جلسة مناقشة موازنة العام 2024 في مجلس النواب يدرك تمامًا ما المقصود من كل هذا الكلام الذي يصف الحالة التي نعيشها جميعًا بأوصاف مجرّدة من الغايات ومن المساحيق التجميلية ومن الرياء والتدجيل. 
 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى