خطّة الحكومة: “مجحفة” وتحمّل القطاع وحده مسؤولية ردّ الودائع وستطيح الـ”فريش دولار
“النهار”- سلوى بعلبكي
4 أعوام ونيف احتاجت الحكومة اللبنانية والمعنيون فيها بسلامة القطاع المصرفي وصحته، للتحرّك ووضع مشروع قانون يتعلق بمعالجة أوضاع المصارف وإعادة تنظيمها، فيما كان يجب أن يحصل ذلك بسرعة قياسية ومسؤولة مترافقاً مع قانون الكابيتال كونترول في الأسابيع الأولى لاندلاع الأزمة في تشرين الأول 2019. فإقرار القانون كان حتماً سيسهم بوقف الانهيار النقدي من جهة وحماية ودائع ومدخرات الناس من التآكل من جهة أخرى، والحفاظ على الاحتياطي الدولاري الباقي في مصرف لبنان الذي كان يقرب من 34 مليار دولار يومها قبل أن ينخفض الى أقل من 27 مليار دولار بسبب الدعم الذي اعتمدته حكومة حسان دياب.
بعد إقرار الموازنة، التفتت الحكومة جهة المصارف وبادرت الى تعميم خطتها لإعادة هيكلة المصارف وفق معايير وأسس تم الاتفاق عليها بين وزارة المال ومصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، وأخرجتها بـ”مشروع قانون متعلق بمعالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها”. مشروع القانون هذا وفق ما قال نائب رئيس حكومة تصريف الأعمال، سعادة الشامي، يهدف إلى “تأمين الحماية للودائع المشروعة وتعزيز الاستقرار المالي وإعادة تفعيل القطاع المصرفي ليؤدّي دورَه في تمويل القطاع الخاص والمواطن وتحفيز النمو ووضع لبنان على سكة التعافي آخذين في الاعتبار استدامة الدين العام وديمومة الدولة في تقديم الخدمات العامة ولكن دون إثقال كاهل المواطنين بأعباء ضريبية إضافية. فلا اقتصاد دون قطاع مصرفي ولا نمو دون قطاع خاص. كما يهدف القانون إلى الحد من المخاطر النظامية المتعلِّقة بالقطاع المصرفي ككل، وتخفيف الاعتماد على اقتصاد النقد الذي إذا استمر فسيلحق ضرراً كبيراً بلبنان وبعلاقاته مع المصارف المراسلة والمؤسسات المالية العالمية”.
وفيما لا يستبعد أحد وجود بصمات صندوق النقد عليها مباشرة أو عبر “ملائكته” الحاضرة بقوة، ساد استغراب من استبعاد جمعية المصارف وأهل القطاع عن الإعداد، حيث حضر الجميع تقريباً فيما غُيّب أهل العرس.
رغم ذلك، ترى مصادر مصرفية أنه “لا يضير وجود خطة، ووجودها أفضل بكثير من عدمه، بالرغم من غياب مشروع قانون الـ”كابيتال كونترول” الذي وجب أن يرافق الخطة إلى الإقرار لتكتمل “عدة شغل” مسار الإنقاذ الشامل والعودة بالبلاد الى سكة التعافي الاقتصادي”.
في قراءة أولية غير تشريحية أو تفصيلية لصفحات المشروع الستين، لن يحتاج القارئ كثيراً ليكتشف أن المشروع وُضع وفق ذهنية تبتغي من خلاله تحميل المصارف بمفردها وزر أزمة السيولة وفقدان ودائع الناس وانهيار النقد الوطني. وقد تكون كلمات “إجحاف” و”رمي العبء” على المصارف بمفردها، وافتقاد عدالة توزيع الخسائر والمسؤوليات، وعدم الإشارة المباشرة عن مسؤولية الدولة في “شفط” الودائع على مر عقود، هي العبارات الأكثر دلالة على محتوى القانون العتيد، وما أتت به مندرجات أقسامه وبنوده، وهو ما يعترف به واضعو الخطة من أعلى الهرم في الدولة.
لكن، إنفاذاً للموضوعية، تشير المصادر إلى أن البند المتعلق بإنشاء “الهيئة المختصة بإعادة الهيكلة” قد يثير بعض الارتياح في الأوساط المالية والمصرفية على خلفية أن “تعيين أعضائها لمدة 5 سنوات يتم بموجب مرسوم يصدر عن مجلس الوزراء بعد اقتراح 3 أسماء أو 5 من قبل الحاكم ونوابه لكل من الخبير القانوني والخبير المالي/المصرفي والخبير الاقتصادي”، ما يبعِد قليلاً شبهة المحاصصة والزبائنية “العريقة” في التعيينات اللبنانية، ويسمح بوصول من يمكن “تأمينه” على قطاع حسّاس وحيوي كالقطاع المصرفي، ويضع في يد مصرف لبنان المسؤولية الكاملة عن إدارة هذا الملف، وهو ما قد يكون مصدر ثقة للمصارف المتخوفة من فوضى وتدخلات لا تخدم الأهداف المبتغاة.
إلى ذلك، قد تكون بعض الملاحظات جديرة بالاهتمام وتسليط الضوء عليها إلى حين التمحيص القانوني مستقبلاً بالقانون، إذ يشمل “نطاق تطبيق القانون” (المادة 4) المصارف اللبنانية، بما فيها فروعها في الخارج، ما لم تنصّ قوانين وأنظمة البلدان الأجنبية على خلاف ذلك بخصوص تلك الفروع، وهو ما قد يؤدي إلى فقدان الثقة الكلية بالمصارف اللبنانية في الخارج التي تُعدّ حالياً السند الأساسي الذي يرفد المؤسسات الأم في لبنان بالدعم والسيولة لتعزيز صمودها وبقائها في السوق.
كذلك، يمنح القانون الهيئة المختصة بإعادة الهيكلة، صلاحيات ممارسة مهامها (المادة 18) “من دون حاجة إلى موافقة مساهمي المصرف قيد إعادة الهيكلة أو دائنيه أو مجلس إدارته أو إدارته العليا أو أي طرف مقابل آخر يتعامل معه” وهذا ما يعطي للهيئة سلطة مطلقة على المصارف، وقدرة منفردة على تقرير بقائها في السوق أو إحالتها إلى التصفية، وإلغاء غير مبرّر لدور أصحابها ومساهميها، وهو ما يمكن معه “قطع رأس” أي بنك دون إلزامية حتى التشاور مع مالكيه وإدارته.
ومع (المادة 33) ستتكرّس ديكتاتورية حتمية في ممارسة ما يُفترض أنه إعادة تنظيم ومساعدة على النهوض، لكن المادة تقول بأنه: “لا تقبل القرارات الصادرة عن الهيئة المختصة بإعادة الهيكلة أي طريق من طرق الطعن القانونية أو القضائية، عادية كانت أو غير عادية، لن يحول أي مطلب على الإطلاق دون تطبيق قرار إعادة الهيكلة”.
بالإضافة الى المادة 18 التي تسمح للهيئة بالطلب من المصرف “بيع أصول مشاركاته في الخارج” ودائماً دون حق الاعتراض، ما قد يضع القطاع المصرفي في قيود لا يمكن معها بناء خطط وبرامج تطوير مستقبلية.
ما بين الـ100 ألف دولار المبلغ المحميّ من الودائع المؤهلة، والـ36 ألف دولار من الودائع غير المؤهلة، سيتحمّل مصرف لبنان ما يعادل النصف، والمصارف النصف الآخر، وهو ما ينطبق أيضاً على الـzero-coupon bond، وتالياً فإن العبء زاد على المصارف مع الصعوبة في تأمين هذه المبالغ وتحديداً في موضوع zero-coupon bond.
لكن السؤال أين الدولة في هذا؟ وأين مسؤوليتها تجاه المودعين والمصارف والمصرف المركزي على حد سواء؟ لا يجيب القانون عن هذه الأسئلة، ولا يشير إلى أي دور مساعد كأنما لا دولة “شفطت” الودائع، ولا حكومات هدرت بالجملة. وتؤكد المصادر أن الخطة كرّست مبدأ “الهيركات” على الودائع التي هي ما دون المئة ألف دولار وزادت الفترة الزمنية لاستردادها فبدل أن يسترجعها المودع خلال 8 سنوات أصبحت الفترة بين 10 و15 سنة.
العبء الذي يرتّبه القانون قد يضع فور البدء بتطبيقه عدة مصارف خارج الخدمة، ما سيضع مصرف لبنان أمام تحدّ كبير بعد أن تؤول مسؤولية إدارتها عليه منفرداً، تزامناً مع الضمور والتراجع الذي سيصيب القطاع برمّته، كنتيجة حتمية للضعف الذي سيرتبه العبء الطويل الأمد عليها (بين 8 إلى 12 سنة) ما سيمنع عليها إعادة الرسملة بأموال جديدة، أو إدخال مساهمين جدد.
يحتاج القانون الى الكثير من التفاهم والتوافق وتفهّم أن الشعبوية التي مارسها بعض الأحزاب والسياسيين ضد المصارف أدّت في الماضي إلى إقفال المصارف أبوابها وزيادة معاناة الناس، فيما المطلوب اليوم أن تتحلى الحكومة والمجلس النيابي بالجرأة في مقاربة ملف القطاع المصرفي والعمل خارج الشعبويات المعتادة والتشدد في أمرين: الأول عدم محاولة شراء الوقت بقانون غير قابل للتطبيق العملي لأن الوقت نفد، والثاني عدم بيع الأوهام للمودعين ومنحهم قانوناً على الورق فقط.
وتعيب المصادر المصرفية على واضعي الخطة أنهم لم يقدّروا أهمية المصارف ودورها الاقتصادي “فهم يعتقدون أنهم من خلال الخطة يحصرون الأذيّة بالمصارف فقط فيما الحقيقة أنهم يلحقون الضرر بالاقتصاد برمّته، إذ إن تحميل الأرباح المستقبلية للمصارف لتغطية الودائع الحالية سيؤدي الى عدم قدرة المصارف على استقطاب رساميل جديدة وسيحدّ من قدرتها على القيام بدورها لخدمة الاقتصاد، ومنح القروض للناس لتنفيذ مشاريع قد تسهم بإنعاش الاقتصاد ونموّه خصوصاً في ظل عدم قدرة الدولة على القيام بدورها”.
موقف موحّد للمصارف؟
الى ذلك، تؤكد مصادر جمعية المصارف أن الخطة بحاجة الى دراسة معمقة، إذ يُتوقع أن يجتمع مجلس إدارة الجمعية هذا الأسبوع للخروج بموقف موحد من أصحاب المصارف. ولكن في قراءة أولية للخطة اعتبرت المصادر عينها أنها “غير عادلة” ولا يمكن للمصارف أن توافق عليها إلا إذا لحظت بعد التعديلات، خصوصاً أنها “ترتكز على مبدأ العودة الى الوراء دون إيجاد حلول للمستقبل بما سيسهم بالقضاء نهائياً على أي أمل بالنهوض بالقطاع المصرفي مجدداً الذي يعتمد أصلاً على الثقة”. وأشارت الى أن 80% من ودائع الناس مع السلطة بشقيها النقدي والسياسي (مصرف لبنان والحكومة)، فيما الـ20% من الودائع موجودة لدى المصارف، فهل يُعقل تحميل مندرجات الحل للطرف الذي لديه 20% من الودائع من دون أن يتحمّل الطرف الآخر وزر الأزمة؟ وإذ تلفت الى أنه رغم الأزمة استطاعت المصارف أن تستقطب أكثر من 2.5 مليار دولار “فريش”، وتالياً فإن تطبيق الخطة بمفعول رجعي، وإن كانت بطريقة غير مباشرة سيطيح بهذه المبالغ، تؤكد أنه لا يمكن للمصارف الانتقاد فقط، بل يجب عليها أن تعطي حلاً بديلاً أو التماهي مع خطة الحكومة بقاسم مشترك معقول، لأنه في نهاية المطاف يجب أن يكمل الاقتصاد مسيرته”.