“قبة باط” سعودية للحريري
“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
أفصح تعبير عن رغبة سعد الحريري العودة إلى السياسة، الإيعاز الذي تحرّك بمثله أنصاره طيلة الأيام المنصرمة. لم يكن أحد من المعاونين ليجرؤ على إعطاء الأمر بتحرّك “الشارع” لولا وجود موافقة من الحريري نفسه، ولم يكن ليحصل من دون وجود “جدول أعمال” عمل بموجبه.
بعد “طوفان الأقصى” وصل الفريق المحيط بالحريري إلى قناعة مفادها أن المنطقة ذاهبة إلى “ترتيبات معينة” تلي الحرب على شكل “تسوية” سيكون للبنان حصة أساسية فيها. لذلك أعاد تنشيط محركاته خارجياً بموازاة حراك داخلي كان يتمّ بعيداً عن الإعلام تولته مجموعة من القوى بالتنسيق في ما بينها. ويسري حديث حول احتمال أن يكون الحريري تحرّك في بيروت بموجب “غطاء خارجي” وفرته موسكو بالتعاون مع بعض الدول العربية التي يتمتع الحريري بعلاقات قوية معها، ما أدى إلى خفض منسوب بعض القيود السعودية الموضوعة عليه، من دون أن يعني ذلك السماح له بأداء أدوار سياسية واسعة. واستشهدت المصادر بتخصيص الحريري جانباً من نشاطه مع “سفراء” تناول معهم ملفات سياسية. الإشارة الأهمّ كانت تخصيصه مقابلة تلفزيونية مع قناة “العربية / الحدث” المملوكة من الرياض، تضمّنت أحاديث عامة في السياسة واشتملت على تحديد بعض المواقف، كما أشارت إلى أن رغبته في التعبير عن حضوره السياسي في بيروت بهذا الشكل، لم تكن لتحصل دون موافقة سعودية، وفيما لو بقيَ “الجفاء” قائماً مع الرياض، ولم يكن الحريري يرغب بأداء أي دور في هذا الشكل “الفاقع” الذي يُزعج المملكة.
أيضاً لا يمكن عزل التغييرات التي طبعت حراك الحريري عن مثلها حصلت في بيروت. على سبيل المثال تمتع المقربون منه أخيراً بحرية حركة لم يشهدوا مثلها طيلة الفترة التي تلت إعلان الحريري عزوفه عن السياسة عام 2022، أوصلتهم إلى إعادة ربط خيوط شعبية وسياسية، وكانوا يعبّرون عن حضورهم من دون حرج. كذلك لوحظَ أن تيار “المستقبل” عاد إلى أداء بعض الأدوار أخيراً، وفي بعض الملفات تحول إلى ما يشبه “الناظر”.
أيضاً يمكن وضع “دار الفتوى” من ضمن المتغيرات التي حصلت. وبالمناسبة، وصلت “عائشة بكار” إلى قناعة أخيراً، مفادها أن إنقاذ الحالة السنّية لا يتمّ بغير الحريري، وذلك بعدما أدركت أن نتائج إنتخابات عام 2022 ومن ثم كل الإجراءات التي قامت بها الدار على مستوى إنتخابات العائلة، لم تسفر عن أي تغييرات جدية وموضوعية تطرح أسماءً معينة، بديلاً واقعياً عن الحريري.
ثمة أمر آخر طبع تصرفات “عائشة بكار” أخيراً، يستند إلى عدم رغبة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان أو المجلس الشرعي، تولّي أثقال ذات بعد سياسي. لذلك ولدت في “دار الفتوى” قاعدة حول ضرورة العمل على نزع الأثقال السياسية عن كاهل المفتي، وأن يتولاها سياسي ما. وبناءً على التقديرات التي طبعت المرحلة الماضية وربطها بالمسارات الحالية، وصلت إلى قناعة بضرورة فتح “قنوات عمل” تتيح توفير ظروف عودة الحريري إلى مزاولة نشاطه السياسي وعودته إلى “إمساك” الشارع السنّي وتمثيله ضمن المعترك السياسي. ولم يكن هذا التقدير ليتوفّر لولا الشعور بانعدام الوزن السياسي سنّياً. وتعقيباً على ذلك، فاتح المفتي دريان الحريري بالموضوع حين زاره قبل أيام في بيت الوسط على رأس وفد طالباً منه عدم المغادرة والبقاء في لبنان وإعادة مزاولة عمله السياسي كما في السابق.
عملياً تستند دار الفتوى ومعاونو الحريري كما بعض الدول على المتغيرات الجارية على صعيد الإقليم، ويعتقد أنها ستشمل في حيّزٍ منها لبنان، من ضمن التسوية الجاري تركيبها في المنطقة.
يتقاطع مع دار الفتوى مستوى سياسي عريض وصل إلى التقدير نفسه. ليس سراً أن ثمة طرفاً سياسياً في البلاد يميل إلى الإعتقاد أن “حزب الله” سيخرج فائزاً حكماً في أي تسوية ستُبرم لاحقاً، ما سينعكس انفراجاً على مستوى ملف رئاسة الجمهورية، بحكم أن الدول الراعية لأي تسوية، ستقوم بالإعتراف للحزب في دوره. أولى الإنعكاسات الإيجابية ستشمل مرشح الحزب، رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية الذي سيكون مستفيداً حكماً من أي تطور. لذلك طلب مثلاً إلى فرنجية أن يزيد من نشاطه السياسي باتجاه بعض القوى، وأن “يدوزن” علاقاته ويبقى على مسافة واحدةً من الجميع.
وحكماً، إن احتمال دخول سليمان فرنجية إلى بعبدا ستعني دخوله من ضمن توازنات تجعل منه “الماروني القوي” أو عملياً يكرس نظرية الرئيس الهادئ وهو البروفايل الحالي المطلوب دولياً. وانسجاماً مع موقع فرنجية السياسي كامتداد لنظام الطائف، لا بدّ أن يعقد صفقته السياسية بالتشارك مع زعماء أقوياء في طوائفهم يُنصّبون كشركاء له، لدى السنّة والشيعة. وإن سلمنا أن الشيعي القوي يمثله اليوم رئيس مجلس النواب نبيه بري، فإن السنّي القوي يمثله بلا أدنى شك الرئيس سعد الحريري.
لكن يبقى أن عودة الحريري لن تتمّ على مبدأ الهدوء. في المبدأ وكما يحدث اليوم، سيسعى الحريري لإثارة الجلبة كبابٍ من أبواب تثبيت شعبيته وحضوره، ولن يقبل بحضور من دون حصاد أرقام تؤهله لهذا الحضور. لذلك يرفع استحقاق عام 2026 كمحطة مناسبة لتكريس العودة.